لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله تعالى عنهم المطر وعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم ، فقال لهم نوح : استغفروا ربكم من الشرك ، أي : استدعوه المغفرة بالتوحيد (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.) روى الشعبي : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار ، فلما نزل قيل : يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت؟ فقال : لقد طلبت الغيث بمخاريج السماء التي بها يستنزل القطر ، ثم قرأ هذه الآية ، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء. وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب ، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فتلا الآية. وقال القشيري : من وقعت له حاجة إلى الله تعالى فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار. وقال : إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك ، كلما ازداد نوح عليهالسلام في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان.
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ) أي : في الدارين (جَنَّاتٍ) أي : بساتين عظيمة وأعاد العامل للتأكيد ، فقال (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) أي : يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك ، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٦٦] وقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن : ١٦].
(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ) أي : الملك الذي له الأمر كله (وَقاراً) أي : ما لكم لا تأملون له توقيرا ، أي : تعظيما ، والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة الوقار ، فإنّ بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال ، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه بشيء وقر في صدره ، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقا ولا تنازع له اختيارا ، وتعظم أمره ونهيه بعدم المعارضة.
(وَقَدْ) أي : والحال أنه قد أحسن إليكم مرّة بعد مرّة بما لا يقدر عليه غيره ، فدل ذلك على تمام قدرته ثم لم يقطع إحسانه عنكم ، فاستحق أن تؤمنوا به لأنه (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] ورجاء لدوام إحسانه وخوفا من قطعه لأنه (خَلَقَكُمْ) أي : أوجدكم من العدم مقدّرين (أَطْواراً) أي : تارات عناصر أولا ثم مركبات تغذي الحيوانات ، ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما وأعصابا ودماء ، ثم خلقا آخر تاما ناطقا ذكرانا وإناثا إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور ، ومن قدر على هذا ابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة.
(أَلَمْ تَرَوْا) أي : أيها القوم (كَيْفَ خَلَقَ اللهُ) أي : الذي له العلم التامّ والقدرة البالغة والعظمة الكاملة (سَبْعَ سَماواتٍ) هنّ في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة (طِباقاً) أي : متطابقة بعضها فوق بعض ، وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ما لها من فروج ، ولا يكون تمام المطابقة كذلك إلا بالإحاطة من كل جانب.
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ) أي : الذي ترونه (فِيهِنَّ نُوراً) أي : لامعا منتشرا كاشفا للمرئيات ، أحد