قال قائل : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه فيكون على مقتضى ذلك أنّ هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة إذا في عمل المواليد ولا دلالة فيها على شقي وسعيد ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم ، ولقد أحسن القائل (١) :
حكم المنجم إن طالع مولدي |
|
يقضي علي بميتة الغرق |
قل للمنجم صبحة الطوفان هل |
|
ولد الجميع بكوكب الغرق |
وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : تلقهم والقمر في العقرب ، فقال : فأين قمرهم وكان ذلك في آخر السنة. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم. وقال له مسافر بن عون : يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار. فقال له عليّ : ولم؟ قال له : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت ، فقال عليّ : ما كان لمحمد صلىاللهعليهوسلم منجم ولا لنا من بعده ، ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّا أو ضدّا ، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ، ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر ، والكافر في النار ، والمنجم كالساحر والساحر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال : «لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال : إنما كان ذلك بتنجيمي ، وما لمحمد منجم وما لنا بعده ، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه».
(فَإِنَّهُ) أي : الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب ، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه (يَسْلُكُ) أي : يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي : الجهة التي يعلمها ذلك الرسول (وَمِنْ خَلْفِهِ) أي : الجهة التي تغيب عن علمه ، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي : ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل ، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها ، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين (رَصَداً) أي : حرسا من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول ، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه.
وقال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك بخبر ، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره ، وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك. وعن
__________________
(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.