هذه المقادير الثلاثة ، وكان صلىاللهعليهوسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وكذا بعض أصحابه ، واشتدّ ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم وقد تقدّم أنّ ذلك نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ، فصار قيام الليل تطوعا فينبغي للمتعبد المواظبة عليه خصوصا في الوقت الذي يبارك الله تعالى بالتجلي فيه ، فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن تشبه ذاته شيئا أو نزوله نزول غيره ، بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء حتى يبقى ثلث الليل ، وفي رواية حتى يبقى شطر الليل الآخر إلى سماء الدنيا ، فيقول سبحانه هل من سائل فأعطيه ، هل من تائب فأتوب عليه ، هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر.
ولما أمر بالقيام وقدّر وقته وعينه أمر بهيئة التلاوة التي هي روح الصلاة على وجه عامّ ، فقال تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) أي : اقرأه على ترسل وتؤدة وتبيين حروفه وإشباع حركاته بحيث يتمكن السامع من عدّها ويجيء المتلو منه شبيها بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان وأن لا يهذه هذا ولا يسرده سردا ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : شرّ السير الحقحقة ، وشرّ القراءة الهذرمة ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر ولكن قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
وقوله تعالى : (تَرْتِيلاً) تأكيد في الأمر به وأنه لا بدّ منه للقارئ ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اقرأ على هينتك ثلاث آيات أو أربعا أو خمسا ، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قام حتى أصبح بآية» (١) والآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءته صلىاللهعليهوسلم فقالت : «لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفها لعدها» (٢). وسئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم؟ قال : «كانت مدّا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ بسم الله ويمدّ الرحمن ويمدّ الرحيم» (٣). وجاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : قرأت المفصل الليلة في ركعة ، فقال : هذا كهذ الشعر ، لقد عرفت النظائر التي كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقرن بينهنّ فذكر عشرين سورة من المفصل كل سورتين في ركعة.
وروى الحسن رضي الله عنه أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم «مرّ برجل يقرأ آية ويبكي فقال ألم تسمعوا إلى قول الله عزوجل : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) هذا الترتيل» (٤). وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن عوف قال : «قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة ، فيوقف في أوّل درج الجنة ، ويقال له اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (٥). وندب إصغاء إليه وبكاء عند القراءة وتحسين صوت بها وتعوذ بها جهرا وإعادته لفصل طويل وجلوس لها واستقبال وتدبر
__________________
(١) أخرجه النسائي في الافتتاح باب ٧٩ ، وأخرجه بلفظ : «قرأ بآية حتى أصبح» أحمد في المسند ٥ / ١٤٩.
(٢) أخرجه بنحوه البخاري في المناقب حديث ٣٥٦٨ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٩٣ ، وأبو داود في العلم حديث ٣٦٥٤ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٣٩.
(٣) أخرجه البخاري في فضائل القرآن حديث ٥٠٤٦.
(٤) أخرجه الطبري في تفسيره ١٠ / ١٤٠ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٣٧ ، وابن كثير في تفسيره ٣ / ٢٦٩.
(٥) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٤٦٤ ، والترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٩١٥.