لِلتَّقْوى) أي : اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوما للخلق في عالم الشهادة ، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي : لهفواتهم وزلاتهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لغضهم وسائر طاعاتهم. والتنكير للتعظيم.
قال أنس : فكنا أي بعد نزول هذه الآية في حق ثابت ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان في يوم حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار فانهزمت طائفة منهم فقال : أفّ لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له : اعلم أن فلانا رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستنّ في طوله ، وقد وضع على درعي ثوبه فائت أبا بكر خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقل له : إن عليّ دينا حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤية فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
واختلف في سبب نزول قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) فقال ابن عباس رضي الله عنهما : «بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم سرية إلى بني النضير وأمر عليهم عتبة بن حصن الفزاري فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عتبة وقدم بهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجاءهم بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قائلا في أهله ، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى أبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلىاللهعليهوسلم حجرة ، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم. فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا. فنزل جبريل عليهالسلام فقال إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا. فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم فقالوا : نعم. فقال شبرمة : أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد وهو الأعور بن بسامة فرضوا به فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم» (١) فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) جمع حجرة وهي ما تحجره من الأرض بحائط ونحوه. كان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء (أَكْثَرُهُمْ) أي : المنادي والراضي دون الساكت لعذر (لا يَعْقِلُونَ) أي : محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم ، فلم يصبروا بل فعلوا معه صلىاللهعليهوسلم كما يفعل بعضهم ببعض.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي : المنادي والراضي (صَبَرُوا) أي : حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها ، وهو حبس فيه شدّة وصبر. (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق (لَكانَ) أي :
__________________
(١) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٥٥ ، بلفظ : «أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو ...».