الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتا لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) [الرحمن : ٧٦] أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع ، وقال الزمخشريّ : (نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) كبرمة أعشار وبرد أكياش ، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ، ويقال أيضا : نطفة مشج قال الشماخ (١) :
طوت أحشاء مرتجة لوقت |
|
على مشج سلالته مهين |
ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيرا له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما ا ه. فقد منع أن يكون أمشاجا جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالا لا يكون مفردا ، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالا مفردا فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد بردا فوصفهما بالجمع ، والمعنى : من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة : ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فأيهما علا كان الشبه له.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة ، قال القرطبيّ : وقد روي هذا مرفوعا ذكره البزار وعن قتادة : أمشاج ألوان وأطوار ، يريد أنها تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : هي عروق النطفة. وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء ، والغرض من هذا التنبيه على أنّ الإنسان محدث فلا بد له من محدث قادر على تصويره وقد صوّره على صور مختلفة فمنها صغير وكبير وطويل وقصير ومستدير وعريض.
ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه جعل بين العظام مفاصل ثم أوصلها بأوتار وعروق ولحم ، ودوّر الرأس وشق في جانبيه السمع ، وفي مقدمه البصر والأنف والفم ، وشق في البدن سائر المنافذ ، ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة ، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠].
وقوله تعالى : (نَبْتَلِيهِ) يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه حال من فاعل خلقنا أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له ، والثاني : أنه حال من الإنسان وصح ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال ، ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى : نبتليه نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة ، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى : نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلف ، وفيما يختبره به وجهان : أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشرّ. والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. وقيل : نبتليه نكلفه بالعمل بعد الخلق. قال مقاتل رضي الله عنه : وقيل : نكلفه ليكون مأمورا بالطاعة
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان الشماخ ص ٣٢٨ ، ولسان العرب (مشج) ، (سلل) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٥٥١ ، وتاج العروس (سلل).