يكونوا أسلموا ، وكان إسلامهم سببا لإسلام غيرهم ، فكان كلام ابن أمّ مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل ، وذلك يحرم أيضا. فإنّ الله تعالى ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرّد ندائهم ، فهذا النداء الذي هو كالصارف للكفار عن الإيمان أولى أن يكون ذنبا ، وأيضا فمع هذا الاعتناء كيف لقب بالأعمى ، وأيضا فالنبيّ صلىاللهعليهوسلم له أن يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة ، والتعبيس من ذلك القبيل؟
أجيب : بأنّ ما فعله ابن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم مشغول بغيره وأنه يرجو إسلامهم ، ولكنه لم يعلم بذلك. وأيضا الله سبحانه وتعالى إنما عاتبه على ذلك حتى لا تنكسر قلوب الضعفاء ، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنيّ الكافر.
وقال ابن زيد : إنما عبس النبيّ صلىاللهعليهوسلم لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه فدفعه ابن أمّ مكتوم وأبى إلا أن يتكلم مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم فكان في هذا نوع جفاء منه ، ومع هذا نزل في حقه ذلك ، وأما ذكره بلفظ الأعمى فليس للتحقير بل كان بسبب عماه يستحق أن يزيده تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا ، ولقد تأدب الناس بأدب الله تعالى في هذا تأدبا حسنا ، فقد روي عن سفيان الثوري رضي الله عنه : أنّ الفقراء كانوا بمجلسه أمراء ، وأما كونه صلىاللهعليهوسلم كان مأذونا له في تأديب أصحابه فلأنّ تقديمهم ربما يوهم ترجيح تقديم الأغنياء على الفقراء فلهذا السبب عوتب.
قال الحسن رضي الله عنه : لما تلا جبريل عليهالسلام على النبيّ صلىاللهعليهوسلم هذه الآيات عاد وجهه كأنما نسف فيه الرماد ينتظر ما يحكم الله تعالى عليه فلما قال : (كَلَّا) سرّي عنه أي : لا تفعل مثل ذلك ، وقد بينا نحن أنّ ذلك محمول على ترك الأولى. ثم قال الله تعالى : (إِنَّها) أي : هذه السورة. وقال مقاتل رضي الله عنه : آيات القرآن. وقيل : القرآن ، وأنثه لتأنيث خبره وهو قوله تعالى : (تَذْكِرَةٌ) أي : عظة للخلق يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي : كان حافظا له غير ناس ، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
ثم إنّ الله تعالى أخبر عن جلالة ذلك عنده فقال سبحانه (فِي صُحُفٍ) أي : منتسخة من اللوح المحفوظ ، وقيل : هي كتب الأنبياء عليهمالسلام ، دليله قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى ، الآيتان : ١٨ ـ ١٩]. (مُكَرَّمَةٍ) أي : عند الله تعالى.
(مَرْفُوعَةٍ) أي : في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار (مُطَهَّرَةٍ) أي : منزهة عن أيدي الشياطين لا يمسها إلا أيدي ملائكة كرام مطهرين.
كما قال تعالى : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي : كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر يقال : سفرت ، أي : كتبت ، ومنه قيل للكتاب : سفر وجمعه أسفار. وقيل : هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول ، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم بالصلح ، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم.
ثم أثنى تعالى عليهم بقوله سبحانه : (كِرامٍ) أي : على الله تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في كرام قال : مكرّمون أن يكونوا مع ابن آدم إلا إذا خلا بزوجته أو برز لغائط وقيل : يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وقوله : (بَرَرَةٍ) جمع بارّ كساحر وسحرة وفاجر وفجرة ، والبارّ هو الصادق المطيع. ومنه برّ فلان في يمينه أي : صدق ، وفلان يبر خالقه