والنحوص : من الأتن التي لا لبن لها.
ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيبا لهم : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي ،) أي : يكفي كفاية مبتدأة (مِنْ جُوعٍ) فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه ، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى : أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. فإن قيل : كيف قيل : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وفي الحاقة : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦]؟ أجيب : بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات ، فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم.
ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ،) أي : يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى : (ناعِمَةٌ ،) أي : ذات بهجة وحسن كقوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] أو متنعمة. قال مقاتل : في نعمة وكرامة. الصفة الثانية : قوله تعالى : (لِسَعْيِها ،) أي : في الدنيا بالأعمال الصالحة (راضِيَةٌ ،) أي : في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة.
الصفة الثالثة قوله تعالى : (فِي جَنَّةٍ) ثم وصف الجنة بصفات الأولى قوله تعالى : (عالِيَةٍ ،) أي : علية المحل والقدر ، والصفة الثانية : قوله تعالى : لا يسمع فيها لاغية قرأ بالتاء الفوقية نافع مضمومة لاغية بالرفع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية مضمومة لاغية بالرفع لقيامها مقام الفاعل ، والباقون بالتاء الفوقية مفتوحة لاغية بالنصب فيجوز أن تكون التاء للخطاب ، أي : لا تسمع أنت وأن تكون للتأنيث ، أي : لا تسمع الوجوه ، واللغو وقال ابن عباس : الكذب والبهتان والكفر بالله تعالى. وقال قتادة : لا باطل ولا إثم. وقال الحسن : هو الشتم. وقال الفراء : الحلف الكاذب ، والأولى كما قيل : لا يسمع في كلامهم كلمة ذات لغو ، وإنما يتكلمون بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أحسن الأقوال قاله القفال. وقال الكلبي : لا يسمع في الجنة حالف بيمين لا برّة ولا فاجرة.
الصفة الثالثة : قوله تعالى : (فِيها ،) أي : الجنة (عَيْنٌ جارِيَةٌ) قال الزمخشري : يريد عيونا في غاية الكثرة كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير : ١٤] وقال القفال : فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود ، وتجري لهم كما أرادوا.
الصفة الرابعة : قوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ،) أي : عالية في الهواء. قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء ما لم يجىء أهلها ، فإذا أرادوا أن يجلسوا عليها تواضعت ثم ترتفع إلى مواضعها.
الصفة الخامسة : قوله تعالى : (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) جمع كوب ، وهي الكيزان التي لا عرى لها. قال قتادة : فهي دون الإبريق.
وفي قوله تعالى : (مَوْضُوعَةٌ) وجوه أحدها : أنها معدّة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئا فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معدّ. ثانيها : موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشراب. ثالثها : موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جواهر وتلذذهم بالشرب فيها. رابعها : أن يكون المراد موضوعة عن حدّ الكبر ، أي : هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) [الإنسان : ١٦].