يغطيها بظلمته فتغيب وتظلم الآفاق وقيل : الكناية للأرض ، أي : يغشى الدنيا بالظلمة فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور ، وجيء يغشاها مضارعا دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل ؛ إذ لو أتى به ماضيا لكان التركيب إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
تنبيه : إذا في الثلاثة لمجرّد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.
(وَالسَّماءِ وَما ،) أي : ومن (بَناها ،) أي : خلقها على هذا السقف المحكم. أقسم تعالى بنفسه وبأعظم مخلوقاته.
وقوله تعالى : (وَالْأَرْضِ ،) أي : التي هي فراشكم (وَما ،) أي : ومن (طَحاها ،) أي : بسطها وسطحها على الماء كذلك.
وكذا قوله تعالى : (وَنَفْسٍ ،) أي : أي نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره (وَما ،) أي : ومن (سَوَّاها ،) أي : عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها ، وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. فإن قيل : لم نكرت النفس؟ أجيب : بوجهين :
أحدهما : أنه يريد نفسا خاصة من بين النفوس ، وهي نفس آدم عليهالسلام ، كأنه قال تعالى : وواحدة من النفوس.
ثانيهما : أنه يريد كل نفس ، ونكره للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير : ١٤] وإنما أوثرت ما على من فيما ذكر لإرادة الوصفية بما ضمنا وإن لم يوصف بلفظها ؛ إذ المراد أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته ، ولذلك مثلوا بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] وقدّروها بانكحوا الطيب ، وهذا تنفرد به ما دون من. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم.
أقسم الله تعالى بأنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمّل المكلف فيها ويشكر عليها ، لأنّ الذي يقسم الله تعالى به يحصل به روح في القلب فتكون الدواعي إلى تأمّله أقرب.
(فَأَلْهَمَها ،) أي : النفس (فُجُورَها وَتَقْواها) قال ابن عباس رضي الله عنهما : بين لها الخير والشرّ ، وعنه : علمها الطاعة والمعصية. وعن أبي صالح : عرّفها ما تأتي وما تتقي. وقال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها. وقال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال البغوي : وهذا بين أنّ الله تعالى خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور وعن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه ، أشيء قضي عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلىاللهعليهوسلم وثبتت الحجة عليهم؟ قلت : بل شيء قضى عليهم ، ومضى عليهم ، فقال : أفلا يكون ظلما؟ قال : ففزعت منه فزعا شديدا وقلت : إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] فقال لي سدّدك الله إنما سألتك لأختبر عقلك. إنّ رجلا من جهينة أو مزينة أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضى الله عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به الحجة ، فقال : في شيء قد مضى عليهم ، قال فقلت : ففيم العمل الآن؟ قال : من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها». وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى :