عن ذلك ، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعا إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر ، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك ، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سببا للفتنة لأنها قد تكتب لمن تهوى ، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب ، والخط إشارة اليد وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان ، فهي أبلغ من اللسان فأحب صلىاللهعليهوسلم أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصينا لها.
وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه ، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه ، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهارا لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريرا لربوبيته وتحقيقا لأكرميته ، (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه (لَيَطْغى) أي : من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته.
(أَنْ رَآهُ) أي : رأى نفسه (اسْتَغْنى) أي : وجد له الغنى بالمال وقيل : أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل ، فقال : يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، قال : فأتاه جبريل عليهالسلام فقال : يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا ، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) بالعشيرة والأنصار والأعوان ، وحذف اللام من قوله تعالى : (أَنْ رَآهُ) كما يقال إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم ، فرأى علمية واستغنى مفعول ثان ، وأن رأى مفعول له.
(إِنَّ إِلى رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره (الرُّجْعى) مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع ، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه.
وقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ) في مواضعها الثلاث للتعجب (الَّذِي يَنْهى) أي : على سبيل التجدد والاستمرار وهو أبو جهل.
(عَبْداً) أي : من العبيد وهو النبيّ صلىاللهعليهوسلم (إِذا صَلَّى) أي : خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقالوا : نعم. فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته ، ولأعفرنّ وجهه في التراب ،. قال : فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيده ، فقيل : له : ما لك؟ ، فقال : إن بيني وبينه خندقا من النار وهولا وأجنحة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١). وفي رواية «لو فعله لأخذته
__________________
والشوكاني في الفوائد المجموعة ١٢٦ ، وابن عراق في تنزيه الشريعة ٢ / ٢٠٨ ، والسيوطي في اللآلئ المصنوعة ٢ / ٩٢.
(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٢٧٩٧.