لا يجيزون إبدال نكرة من معرفة إلا بشرط وصفها ، أو كونها بلفظ الأوّل ومذهب البصريين لا يشترط شيء ، والمعنى : لنأخذن بناصية أبي جهل الكاذبة في قولها الخاطئة في فعلها ، والخاطئ معاقب مأخوذ والمخطئ غير مأخوذ ووصفت الناصية بالكاذبة الخاطئة كوصف الوجوه في قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣] وإنما وصفت الناصية بالكاذبة لأنه كان يكذب على الله تعالى في أنه لم يرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وعلى رسوله في أنه ساحر وليس بنبي ووصفت بأنها خاطئة لأنّ صاحبها تمرّد على الله تعالى كما قال تعالى : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) [الحاقة : ٣٧] فهما في الحقيقة لصاحبها وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء.
وروي أنّ أبا جهل مرّ برسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك فأغلظ عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : أتنهرني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، فو الله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا ورجالا مردا فأنزل الله تعالى : (فَلْيَدْعُ) أي : دعاء استغاثة (نادِيَهُ) أي : أهل ناديه ليعينوه فهو على حذف مضاف ، لأنّ النادي هو المجلس الذي ينتدى فيه القوم قال تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩] أي : يتحدّثون فيه أو على التجوّز لأنه مشتمل على الناس كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله ، والمعنى فليدع عشيرته فلينتصر بهم.
(سَنَدْعُ) أي : بوعد لا خلف فيه (الزَّبانِيَةَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدّة ، جمع زبني مأخوذ من الزبن وهو الدفع. وقال الزمخشري : الزبانية في كلام العرب الشّرط الواحد زبنية. وقال الزجاج : هم الملائكة الغلاظ الشداد. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تعالى. وروي «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) قال : أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك». قال الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) فلما ذكر الزبانية رجع فزعا ، فقيل : له : خشيت منه؟ قال : لا ولكن رأيت عنده فارسا وهدّدني بالزبانية فلا أدري الزبانية ، ومال إليّ الفارس فخشيت منه أن يأكلني. قال ابن عباس رضي الله عنهما : والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته». (١)
وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع لأبي جهل ، أي : ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل (لا تُطِعْهُ) أي : فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كقوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨] وقوله تعالى : (وَاسْجُدْ) يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، وأن يكون سجود التلاوة في هذه السورة ، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سجدت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] وفي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) سجدتين ، وهذا نص أن المراد سجود التلاوة ، ويدل للأوّل قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى قوله تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ) أي : ودم على سجودك. قال الزمخشري : يريد الصلاة لأنه لا يرى سجود التلاوة في المفصل والحديث عليه. (وَاقْتَرِبْ) أي : وتقرّب إلى ربك بطاعته وبالدعاء إليه. قال صلىاللهعليهوسلم : «أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن ـ أي : فحقيق ـ أن
__________________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٤٩.