وقيل : معناه قضي الأمر وقضي ما هو كائن كما قالوا في (حم) وفي (ص) صدق الله. قال الرازي : وقد ذكرنا أنّ الحروف تنبيهات قدّمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الإسماع فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق وذكرنا أيضا أنّ العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ظاهرة ووجد في الجارحية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعقل معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر وصفات الله تعالى وصدق الرسل ووجد فيها ما لم يعقل ولا يمكن التصديق به لو لا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر. والميزان الذي توزن به الأعمال.
فكذلك ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية فيها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلا منه وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كحروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد للأمر لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولك : ربنا اغفر لنا وارحمنا بل يكون النطق به تعبدا محضا.
ويؤيد هذا وجه آخر : وهو أنّ هذه الحروف مقسم بها لأنّ الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفا لهما فإذا أقسم بالحروف التي هل أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى ، وإذا عرفت هذا فنقول القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ) [العصر : ١] وقوله تعالى : (وَالنَّجْمِ) [النجم : ١] بحرف واحد كما في قوله تعالى : (ص) و (ن) ووقع بأمرين كما في قوله تعالى : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١] وفي قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) [الطارق : ١] وبحرفين كما قال في قوله تعالى : (طه) [طه : ١] و (طس) [النمل : ١] و (حم) [غافر : ١] ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ) [الصافات : ١ ـ ٣] وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [البروج : ١ ـ ٣] وبثلاثة أحرف كما في قوله تعالى : (الم) [البقرة : ١] و (طسم) [الشعراء : ١](الر) [يونس : ١] ووقع بأربعة أمور كما في قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات : ٤] وفي قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ١ ـ ٣] وبأربعة أحرف كما في قوله تعالى : (المص) [الأعراف : ١] و (المر) [الرعد : ١] ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ١ ـ ٦] وفي قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ) [المرسلات : ١ ـ ٥] وفي النازعات وفي الفجر وبخمسة أحرف كما في قوله تعالى : (كهيعص) [مريم : ١] و (حم (١) عسق) [الشورى : ١ ـ ٢] ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال : (والطور والنجم والشمس) وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل وحم وق لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسما به فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحرف وغيره ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخل بالنظم.
وقوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ) أي : الكتاب الجامع الفارق (الْمَجِيدِ) أي : الذي له العلوّ