محضة ، والباقون بالفتح.
ولما كان حال من أضل على علم أشنع زاد في فضيحتهم فقال تعالى : (وَما أُمِرُوا) أي : هؤلاء في التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي : يوحدوا الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره ، واللام بمعنى أن كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦]. وقوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فيه دليل على وجوب النية في العبادات لأنّ الإخلاص من عمل القلب ، وهو أن يراد به وجه الله تعالى لا غيره ، ومن ذلك قوله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ١١]. (حُنَفاءَ) أي : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وأصل الحنف في اللغة : الميل وخصه العرف بالميل إلى الخير ، وسموا الميل إلى الشرّ إلحادا والحنيف المطلق الذي يكون متبرئا عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين. وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات ، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح ، وهو مقام التقى ، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأوّل من الورع ، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعنى وهو المقام الثاني من الورع ، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد ، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر : أحدهما : إلى الحق ، والثاني : إلى الخلق.
ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع ، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرّد عن العوائق ، فقال عز من قائل : (وَيُقِيمُوا) أي : يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود (الصَّلاةَ) لتصير بذلك أهلا بأن تقوم بنفسها ، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى.
ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى : (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي : يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين ، أي : ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة ، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه ، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣]. (وَذلِكَ) أي : والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي : الملة المستقيمة ، وأضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين ، وأنث القيمة ردّا بها إلى الملة. وقيل : الهاء للمبالغة فيه. وقيل : القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها ، أي : وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعوا إليه وتأمر به ، كما قال تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة : ٢١٣]. وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) فقال : القيمة جمع القيم ، والقيم والقائم واحد. قال البغوي : ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد.
ثم ذكر تعالى ما للفريقين فقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : وقع منهم الستر لمرأى عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك ، وإن لم يكونوا عريقين فيه (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : اليهود والنصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) أي : العريقين في الشرك (فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي : النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة (خالِدِينَ فِيها) أي : يوم القيامة ، أو في الحال لسعيهم لموجباتها. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع ، بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته (أُولئِكَ) أي : هؤلاء البعداء البغضاء (هُمْ) أي : خاصة بما لضمائرهم من الخبث (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي : الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم ،