إنّ الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى ، لأنّ الذنب يعظم إمّا لعظم من في حقه الذنب ، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة ، فلذلك كان الذنب في غاية العظم. وإن حمل على الثاني كان المعنى : إن خسران الإنسان دون خسران الشيطان
ولما كان الحكم على الجنس حكما على الكلّ لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك ، وكان فيهم من خلصه الله تعالى مما طبع عليه الإنسان وحفظه عن الميل استثناهم بقوله عز من قائل : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبيّ صلىاللهعليهوسلم به من توحيده سبحانه ، والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. (وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لما أقرّوا به من الإيمان (الصَّالِحاتِ) أي : هذا الجنس من إيقاع الأوامر واجتناب النواهي ، واشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية ، فلم يلحقهم شيء من الخسران.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : المراد بالإنسان الكافر ، وقال في رواية الضحاك : يريد به جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب. وقيل : لفي خسر غبن وقال الأخفش لفي هلكة وقال الفراء : لفي عقوبة. وقال ابن زيد : لفي شرّ. وروى ابن عوف عن إبراهيم قال : أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وأهرم لفي ضعف ونقص وتراجع إلا المؤمنين فإنه يكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم ، ونظيره قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [التين : ٤ ـ ٦].
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر إلا بتكميل غيره ، وحينئذ كان وارثا لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل. قال تعالى مخصصا لما دخل في الأعمال الصالحة منبها على عظمه : (وَتَواصَوْا) أي : أوصى بعضهم بعضا بلسان الحال والمقال (بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت وهو كل ما حكم الشرع بصحته ولا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته ، واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة (وَتَواصَوْا) أيضا (بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات ، وعلى ما يبتلي الله به عباده من الأمراض وغيرها.
ويروى عن أبيّ بن كعب أنه قال : قرأت على النبي صلىاللهعليهوسلم والعصر ، ثم قلت : ما تفسيرها يا رسول الله؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «والعصر قسم من الله أقسم ربكم بآخر النهار إنّ الإنسان لفي خسر أبو جهل إلا الذين آمنوا أبو بكر ، وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان ، وتواصوا بالصبر عليّ» (١). وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفا عليه. وقال قتادة : بالحق ، أي : بالقرآن. قال السدّي : الحق هنا الله عزوجل. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ سورة والعصر غفر الله له ، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر» (٢). حديث موضوع.
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٨٠.
(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٠١.