(باسِقاتٍ) أي : طوالا حال مقدّرة لأنها وقت الإنبات لم تكن طوالا والبسوق الطول يقال بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ومنه قول أبي نوفل في ابن هبيرة (١) :
يا ابن الذين بمجدهم |
|
بسقتهم قيس فزاره |
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقا أي طالت قال الشاعر (٢) :
لنا خمر وليست خمر كرم |
|
ولكن من نتاج الباسقات |
كرام في السماء ذهبن طولا |
|
وفات ثمارها أيدي الجناة |
وبسقت الشاة ولدت ، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبن قبل النتاج. وقال سعيد ابن جبير : باسقات : مستويات وأفردها بالذكر لفرط ارتفاعها (لَها طَلْعٌ) يجوز أن تكون الجملة حالا من النخل أو من الضمير في باسقات ويجوز أن يكون الحال وحده لها وطلع فاعل به وقوله تعالى : (نَضِيدٌ) بمعنى منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبلة الزرع وهو عجيب فإنّ الأشجار الطوال ثمارها بارزة بعضها على بعض لكل واحدة منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز والطلع كالسنبلة الواحدة تكون على أصل واحد.
وقوله تعالى : (رِزْقاً) يجوز أن يكون حالا أي مرزوقا (لِلْعِبادِ) ويجوز أن يكون مفعولا له وللعباد إمّا صفة وإمّا متعلق بالمصدر ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى عند ذكر خلق السماء والأرض تبصرة وذكرى وفي الثمار قال رزقا والثمار أيضا فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضا منفعة غير التبصرة والتذكرة.
أجيب : بأنّ الاستدلال وقع لوجود أمرين :
أحدهما : الإعادة. والثاني : البقاء بعد الإعادة فإنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فقال : أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأنّ البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوّل تبصرة وتذكرة بالخلق. والثاني : تذكرة بالبقاء والرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) حيث ذكر ذلك بين الآيتين ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإثبات النبات.
تنبيه : لم يقيد هنا العباد بالإنابة وقيده في قوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) لأنّ التذكرة لا تكون إلا للمنيب والرزق يعمّ كل أحد غير أنّ المنيب يأكل ذاكرا وشاكرا للإنعام ، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص بقيد ولما كان في ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث وبجميع صفات الكمال أتبعه ما له من التذكير بالبعث بخصوصه فقال تعالى (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي : الماء بعظمتنا (بَلْدَةً) بالتأنيث إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى النبات والخلوّ عنه وذكر (مَيْتاً) للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها أو حملا على معنى المكان فإن قيل : ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس : ٣٣] حيث أثبت الهاء هناك أجيب : بأنّ الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة : لأنّ معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة
__________________
(١) البيت من مجزوء الكامل ، وهو لأبي نوفل في لسان العرب (بسق) ، وتاج العروس (بسق).
(٢) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.