رسول الله صلىاللهعليهوسلم نظر إلى القمر فقال : يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» (١) أخرجه الترمذي ، وقال : حديث صحيح حسن فعلى هذا المراد به القمر إذا خسف وأسود وذهب ضوءه ، أو إذا دخل في المحاق وهو آخر الشهر ، وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للتمريض ، وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة.
ثانيها : ما روي عن ابن عباس : أنّ الغاسق الليل إذا وقب ، أي : أقبل بظلمته من المشرق ، وسمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار. والغسق : البرد ، وإنما أمر بالتعوّذ من الليل لأنّ فيه الآفات ويقل الغوث ، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل ، وقولهم : أعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العدوّ ، وفيه يتم السحر ، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه.
ثالثها : إنه الثريا إذا سقطت وغابت ، ويقال : إنّ الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها ، فلهذا أمر بالتعوّذ من الثريا عند سقوطها.
رابعها : أنه الأسود من الحيات ، ووقبه : ضربه ونقبه والوقب النقب ، ومنه : وقبت الثريد.
ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك عقب ذلك بقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ،) أي : النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين عليها ، والنفث : النفخ مع ريق. وقال أبو عبيدة : النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبيّ صلىاللهعليهوسلم. فإن قيل : ما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ أجيب : بثلاثة أوجه : أحدها : أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهنّ في ذلك. ثانيها : أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهنّ. ثالثها : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨] تشبيها لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد ، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك.
تنبيه : اختلف في النفث في الرقى ، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ويدل عليه حديث عائشة قالت : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين» (٢). وروى محمد بن حاطب : «أنّ يده احترقت فأتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام زعم أنه لم يحفظه» (٣). وروى «أنّ قوما لدغ رجل منهم فأتوا أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقالوا : هل فيكم من راق؟ قالوا : لا حتى تجعلوا لنا شيئا ، فجعلوا لهم قطيعا من الغنم ، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ ، فأخذوه ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال : وما يدريك أنها رقية خذوا واضربوا لي معكم بسهم» (٤). وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي ، وأجازوا النفخ بلا ريق. وقال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وقيل : إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموما إذا كان سحرا مضرا بالأرواح والأبدان ، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان
__________________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٦٦.
(٢) أخرجه مسلم في السلام حديث ٢١٩٢.
(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٤) أخرجه مسلم في السلام حديث ٢٢٠١.