حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن فعل لم يدلّ عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين.
تنبيه : اختلف في إعراب هذه الآية على أوجه :
أحدها : أن (مَثَلُ) مبتدأ وخبره مقدّر. قدره النضر بن شميل : مثل الجنة ما تسمعون. فما تسمعون خبره و (فِيها أَنْهارٌ) مفسر له. وقدّره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة. والجملة بعدها أيضا مفسرة للمثل.
ثانيها : أن (مَثَلُ) زائدة تقديره : الجنة التي وعد المتقون (فِيها أَنْهارٌ) ونظير زيادة (مَثَلُ) هنا زيادة اسم في قول القائل (١) :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ثالثها : أنّ مثل الجنة مبتدأ ، والخبر : قوله تعالى (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) فقدّره ابن عطية : أمثل أهل الجنة كمن هو خالد فقدر حرف الإنكار ومضافا ليصح وقدّره الزمخشريّ : أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. والجملة من قوله تعالى (فِيها أَنْهارٌ) حال من الجنة أي : مستقرّة فيها أنهار (مِنْ ماءٍ) ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم ، مع اتحاد الأرض ببساطها ، وشدّة اتصالها ، للدلالة على أنّ الفاعل ذلك قادر مختار وقد يكون آسنا أي : متغيرا عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقته ، أو من عارض عرض له من منبعه ، أو مجراه قال تعالى : (غَيْرِ آسِنٍ) أي : ثابت له في وقت ما شيء من الطعم ، أو اللون ، أو الريح بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه بخلاف ماء الدنيا فيتغير لعارض وقرأ ابن كثير : بقصر الهمزة والباقون : بمدّها وهما لغتان (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ) ولما كان التغير غير محمود قال تعالى : (لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي : بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر بخلاف لبن الدنيا ، لخروجه من الضرع وهذا يفهم : أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة ، كما كان في الدنيا متنوعا (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) ولما كان الخمر يكره طعمها وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وأنه متى تغير طعمها زال اسمها عرّف أنّ كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن ، غير متعرّض لطعم فقال تعالى : (لَذَّةٍ) أي : لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) في طيب الطعم ، وحسن العاقبة بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ) ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطا ، لخروجه من بطون النحل بالشمع ، وغيره من القذى قال تعالى : (مُصَفًّى) أي : هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك وهذا الوصف ثابت له دائما لا انفكاك له في وقت ما.
تنبيه : قال أبو حيان في حكمة ترتيب هذه الأنهار : إنه بدأ بالماء الذي لا تستغني عنه المشروبات ، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أوقات العرب ، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ والمطعم ، تشوّقت النفس إلى ما تلتذ به ، ثم بالعسل لأنّ فيه الشفاء في الدنيا
__________________
(١) عجزه :
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والبيت من الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢١٤ ، والأغاني ١٣ / ٤٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٣٧ ، ٣٤٠ ، والخصائص ٣ / ٢٩ ، والدرر ٥ / ١٥ ، وشرح المفصل ٣ / ١٤ ، والعقد الفريد ٢ / ٧٨ ، ٣ / ٥٧ ، ولسان العرب (عذر).