ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ولا ضربوا لها أمثالا ، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها ، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها ، بل تلقّوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالإيمان والتعظيم ، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا وأجروها على سنن واحد ، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع ، حيث جعلوها عضين ، وأقروا بعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين ، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه.
والمقصود أن أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذ ردّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرط الله عليهم بقوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ولا ريب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه.
وفي (شَيْءٍ) نكرة في سياق الشرط تعم كلّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدية دقّة وجلّة ، جلية وخفية. ولم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ، ولو لم يكن كافيا لما أمر بالردّ إليه ، إذ من (١) الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند (٢) النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.
قال الشوكاني (٣) : ظاهر قوله (فِي شَيْءٍ) يتناول أمور الدين والدنيا ، ولكنه لما قال : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا ، والردّ إلى الله : هو الردّ إلى كتابه العزيز ، والردّ إلى الرسول : هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته ، وأما في حياته فالردّ إليه سؤاله. هذا معنى الردّ إليهما ، وقيل : معنى الردّ أن يقولوا : الله أعلم ؛ وهو قول ساقط وتفسير بارد!! وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣]. انتهى.
وقال ابن القيم (٤) : إن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته ، وأنه جعل هذا الرد
__________________
(١) جاء في المطبوع [أو لكان] والتصحيح من أعلام الموقعين [١ / ٤٩].
(٢) جاء في المطبوع [عن] التصحيح من أعلام الموقعين [١ / ٤٩].
(٣) فتح القدير [١ / ٤٨١].
(٤) أعلام الموقعين [١ / ٤٩].