وهو حديث صالح للاحتجاج به ، كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد.
وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتب أو السنة ، ولكنه قصّر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولا أولياء ، لأنه رأي في شرع الله ، وللناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وسنّة رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم تدع إليه حاجة ، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل ، إنما هو رخصة للمجتهد ، يجوز له أن يعمل به ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزله منزلة مسائل الشرع.
وبهذا يتضح لك أتم إيضاح ويظهر لك أكمل ظهور ، أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء ، والعامل بها على شفا جرف هار.
فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفى ما ليس له به علم ، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده ، ظلمات بعضها فوق بعض (١). انتهى.
وقد قيل : إن هذه الآية خاصة بالعقائد ؛ ولا دليل على ذلك أصلا ، بل علل الله سبحانه النهي عن العمل بما ليس يعلم بقوله :
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) : أشار إلى الثلاثة الأعضاء ، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال الزجاج : إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك.
وأنشد ابن جرير (٢) مستدلا على عدم جواز هذا ، قول الشاعر (٣) :
ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى |
|
والعيش بعد أولئك الأيام |
واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام ، وتبعه غيره على ذلك الخطأ كصاحب «الكشاف».
__________________
الرّاية (٤ / ٦٣).
(١) انظر : أقوال المفسرين في «الطبري» (١٥ / ٨٦) ، ابن كثير (٥ / ٧٢) ، البحر المحيط (٦ / ٣٦) ، والقرطبي (١٠ / ٢٦٢) ، ومجاز أبي عبيدة (١ / ٣٧٩).
(٢) انظر : تفسير الطبري (١٥ / ٨٧).
(٣) البيت في «ديوانه» (ص ٥٥١).