وراءها شيء وإني لأرى رجلا من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا فكذبوها وكان ذلك كما ذكرت فغفلوا عن أخذ أهبة الحرب ففي ذلك تقول الزرقاء لجديس تحذرهم :
إني أرى شجرا من خلفها بشر |
|
فكيف يجتمع الأشجار والبشر |
سيروا بأجمعكم في وجه أولهم |
|
فإن ذلك منكم فاعلموا الظفر |
فلم يسمعوا لها وهجم عليهم الملك حسان فأفناهم وشتت شملهم. فلما فرغ حسان من جديس دعا باليمامة بنت مرة وكانت أول من اكتحل بمسحوق حجر الإثمد فاتخذوه بعد ذلك كحلا.
** (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الرابعة .. المعنى ألا يخطر ببال هؤلاء المطففين أنهم سيحيون بعد الموت وسيحاسبون على مقدار الذرة والخردلة .. وقيل : الظن في الآية الكريمة بمعنى : اليقين وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف. وعلى ذكر «الظن» قيل في أمثال العرب : أصدق ظنا من ألمعي. والألمعي : هو الذي يظن الظن فلا يخطئ .. وهو من لمعان النار وتوقدها .. وعرفه أوس بن حجر أي عرف الألمعي نظما في هذا البيت :
الألمعي الذي يظن بك ال |
|
ظن كأن قد رأى وقد سمعا |
ومثله «اللوذعي» وهو الصادق الظن .. الجيد الحدس .. وهو مشتق من لذع النار .. ومثله أيضا : الأريحي : وهو الذي يرتاح للكرم. والعبقري : وهو الحاذق الجيد الصنعة في صنعته والنحرير : وهو ذو العلم والرجاحة والفضل والحذق ـ أي المهارة ـ وفي حديث أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «لم تكن أمة إلا كان فيها محدث فإن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر. قيل : وما المحدث؟ قال : الذي يرى الرأي ويظن الظن فيكون كما رأى وكما ظن وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ كذلك.
** (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة السابعة وفيه ردع للمتلاعبين بالأوزان عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر الحساب .. و «سجين» هو سجل الكفرة أي إن ما يكتب من أعمال الفجار مثبت في ديوان الشر الذي دون فيه الله تعالى أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين ـ الجن والإنس ـ وسمي «سجينا» على وزن «فعيل» لأنه من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم أو لأنه مطروح ـ كما روي ـ تحت الأرض السابعة في مكان موحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته استهانة به وليشهده الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقربون. و «سجين» اسم علم منقول من وصف كحاتم وهو منصرف ـ أي ينون آخره ـ لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف. وكما أن «سجينا» هو علم لديوان أعمال الكفار فتقابله كلمة «سجيل» وهو علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار في قوله تعالى في سورة «الفيل» : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) صدق الله العظيم. واشتقاق اللفظة من الإسجال وهو الإرسال لأن العذاب موصوف بذلك. وعن ابن عباس : من سجيل : من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر. وقيل : من شديد عذابه. و «السجن» و «الحبس» مصدرا الفعلين : سجن و «حبس» يقال : حبسه ـ يحبسه ـ حبسا ـ من باب «ضرب» بمعنى : وقفه