اختلاف مذاهبها ـ عينيها عنها. وإن مجرد حصول هذه النكسات قاطع الدلالة على عدم كفاية المسيحية في تكييف الأخلاق ، والإنسانية. كم هي ضعيفة قبضة المسيحية على العالم الغربي ؛ ذلك لأنها من أجل عرض الدنيا قد تخلت عن تعاليمها الروحية مستسلمة أمام غرائز الإنسان البركانية التي يحطم بعضها بعضا.
ولسوء الحظ فإن المسيحية كدين منظم تحولت شيئا فشيئا إلى منظمة ذات سلطة رئاسية مطلقة ، وبذلك انحدر القانون الواحد العالمي إلى ديكتاتورية من ناحية ، وإلى انتشار الفرق ، والمذاهب على أوسع نطاق من ناحية أخرى. وفي هذه اللحظة بدأت الأوطان ، والقوميات الحديثة تتبلور ، كما بدأ الشعور الوطني يسود العالم الغربي ، ويتفوق على الشعور المسيحي ، فانقسمت الكنائس المسيحية فيما بينها إلى عدد جديد من الفرق المذهبية. وجعل كل فريق منها يؤيد المثل الأعلى الجديد الناشئ ؛ أعني المثل الأعلى الوطني. وما لبثت المسيحية أن تشبهت بالوطنية ، وفي كل وطن اعتبرت السياسة الوطنية كأنها سياسة مسيحية لمناقشة الاتجاهات الاشتراكية ، والنزاعات الحرة» (١).
رابعا : إنّ حتمية التعانق بين الأحكام في الإسلام يمنع فصل الدين عن السياسة. وأحكام الشرع ، وأحكام السياسة متعانقة متلازمة لا مجال للفصل بينهما. فأحكام الشرع ، وهي ما شرعه الله تعالى من الدين : كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ... الخ ، وأحكام السياسة ، وهي القانون الموضوع لرعاية الآداب ، والمصالح ، وانتظام الأحوال ، متلازمة من حيث إقامتها ، وتنفيذها ، وإناطة الدولة بهما.
فأحكام الدين والسياسة كلها خاضع لهيمنة الشريعة الإسلامية ، وحكمها وتنظيمها. وكما يقول المقريزي ٧٦٦ ـ ٨٤٥ ـ ه ١٣٦٥ ـ ١٤٤١ م في معرض كلامه عن السياسة : «اعلم أن الناس في زماننا بل ومنذ الدولة
__________________
(١) د. يوسف القرضاوي. كتاب : الإسلام والعلمانية. ص ٥٧ ـ ٥٨.