وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى ما أجراه عليهم.
وقوله : وهل يجازى ، أي : يناقش ويقارض بمثل فعله قدرا بقدر ، لأنّ جزاء المؤمن إنّما هو بتفضّل وتضعيف ثواب ، وأمّا الّذي لا يزاد ولا ينقص فهو الكافر ، وقرأ (١) حمزة والكسائيّ : «وهل نجازي» ـ بالنون وكسر الزاي «الكفور» ـ بالنصب ـ.
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (١٩)
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ...) الآية ، هذه الآية وما بعدها وصف حالهم قبل مجيء السيل ، وهي أنّ الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنّتين والنّعمة الخاصّة بهم ؛ كان قد أصلح لهم البلاد المتّصلة ؛ وعمّرها وجعلهم أربابها ؛ وقدّر السير بأن قرّب القرى بعضها من بعض ؛ حتّى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في قرية فلا يحتاج إلى حمل زاد ، و (الْقُرَى) : المدن ، والقرى التي بورك فيها : هي بلاد الشام بإجماع المفسّرين ، والقرى الظاهرة : هي الّتي بين الشام ومأرب وهي اسم بلدهم.
قال ابن عباس (٢) وغيره : هي قرى عربيّة بين المدينة والشام. واختلف في معنى (ظاهِرَةً) فقالت فرقة : معناه : مستعلية مرتفعة في الآكام وهي أشرف القرى ، وقالت فرقة : معناه : يظهر بعضها من بعض ؛ فهي أبدا في قبضة عين المسافر ؛ لا يخلو عن رؤية شيء منها.
قال ع (٣) : والذي يظهر لي أنّ معنى (ظاهِرَةً) خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار الّتي هي في ظواهر المدن ؛ والله أعلم ؛ و (آمِنِينَ) ، أي : من الخوف والجوع والعطش وآفات السفر ، ثم حكى ـ سبحانه ـ عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر ؛ وهي طلب البعد بين الأسفار كأنّهم ملّوا النّعمة في القرب وطلبوا استبدال الّذي
__________________
(١) قرأ الأخوان وحفص «نجازي» بنون العظمة وكسر الزاي أي نحن «إلّا الكفور» مفعول به. والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول «إلّا الكفور» رفع على ما لم يسمّ فاعله ، ومسلم بن جندب «يجزي» مبنيا للمفعول «إلّا الكفور» رفعا وقرىء «يجزي» مبنيا للفاعل وهو الله تعالى. «الكفور» نصبا على المفعول به. ينظر : «حجة القراءات» ص ٥٨٧ ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٤١)
(٢) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٦٧) رقم (٢٨٨١٨) عن ابن عباس ، ورقم (٢٨٨٢٠) عن الضحاك ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٥) عنهما ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٣٣)
(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤١٦)