ثم أمر تعالى نبيّه بذكر هود وقومه عاد ؛ على جهة المثال لقريش ، وقد تقدّم قصص عاد مستوفى في «سورة الأعراف» ، فلينظر هناك ، والصحيح من الأقوال أنّ بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت إرم ذات العماد ، و (بِالْأَحْقافِ) : جمع «حقف» وهو الجبل المستطيل المعوجّ / من الرمل.
وقوله سبحانه : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ خَلَتِ) معناه : مضت إلى الأرض الخلاء ، و (النُّذُرُ) جمع نذير ، وقولهم : (لِتَأْفِكَنا) معناه : لتصرفنا ، وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) تصميم منهم على التكذيب ، وتعجيز له في زعمهم.
(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢٦)
وقوله سبحانه : (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ...) الآية ، المعنى : قال لهم هود : إنّ هذا الوعيد ليس من قبلي ، وإنما الأمر فيه إلى الله ، وعلم وقته عنده ، وإنّما عليّ أن أبلغ فقط ، والضمير في (رَأَوْهُ) يحتمل أن يعود على العذاب ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئيّ الطالع عليهم ، وهو الذي فسّره قوله : (عارِضاً) و «العارض» : هو ما يعرض في الجوّ من السحاب الممطر ؛ قال ابن العربيّ في «أحكامه» عند تفسيره قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤] : كلّ شيء عرض ، فقد منع ، ويقال لما عرض في السماء من السحاب : «عارض» ؛ لأنّه منع من رؤيتها ومن رؤية البدر والكواكب ، انتهى ، وروي في معنى قوله : (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ؛ أنّ هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدّة ، فطلع هذا العارض من جهة كانوا يمطرون بها أبدا ، جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث ، قال ابن عبّاس : ففرحوا به ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، وقد كذب هود فيما أوعد به ، فقال لهم هود* ع* : ليس الأمر كما رأيتم ، بل هو ما / استعجلتم به في قولكم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) [الأحقاف : ٢٢] ، ثم قال : (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) وفي قراءة ابن مسعود (١) : «ممطرنا قال هود : بل هو ريح» بإظهار المقدّر و (تُدَمِّرُ) معناه :
__________________
(١) ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٦٥) ، و «الكشاف» (٤ / ٣٠٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٠٢)