الآيات والفضل والله في أبيكم ، والسّعي في هذه الآية : العمل والعبادة والمعونة ، قاله ابن عبّاس (١) وغيره ، وقال قتادة : السعي على القدم يريد سعيا متمكّنا (٢) ، وهذا في المعنى نحو الأوّل.
وقوله : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ ...) الآية ، يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ؛ ورؤيا الأنبياء وحي ، وعيّن له وقت الامتثال ، ويحتمل أنّه أمر في نومه بذبحه ، فعبّر عن ذلك بقوله : (إِنِّي أَرى) أي : أرى ما يوجب أن أذبحك ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» (٣) : واعلم أن رؤيا الأنبياء وحي فما ألقي إليهم ، ونفث به الملك في روعهم ، وضرب المثل له عليهم ـ فهو حقّ ؛ ولذلك قالت عائشة : وما كنت أظنّ أنّه ينزل فيّ قرآن يتلى ، ولكنّي رجوت أن يرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم رؤيا يبرّئني الله بها ، وقد بيّنا حقيقة الرؤيا ، وأن الباري ـ تعالى ـ يضربها مثلا للناس ، فمنها أسماء وكنى ، ومنها رؤيا تخرج بصفتها ، ومنها رؤيا تخرج بتأويل ، وهو كنيتها. ولما استسلم إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهماالسلام ـ لقضاء الله ، أعطي إبراهيم ذبيحا فداء ، وقيل له : هذا فداء ولدك ، فامتثل فيه ما رأيت ؛ فإنّه حقيقة ما خاطبناك / فيه ، وهو كناية لا اسم ، وجعله مصدّقا للرؤيا بمبادرة الامتثال ، انتهى.
__________________
ـ لها ، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟!! بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها ، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم ، وليري عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة ، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد ـ آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبدا لهم إلى يوم القيامة بذلة وانكسار.
ثم أيهما أشد وقعا على النفس وأعظم بلاء : أن يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق وله ولد آخر يجد فيه إبراهيم بعض المعوض عن الابن المذبوح؟ أم يؤمر بذبح ولده ووحيده وبكره الذي رزقه على كبر ، وأتى بعد طول انتظار وشدة اشتياق ولم يكن هناك بارقة أمل في أن يرزق إبراهيم بولد بعده؟.
إن الله تعالى قد وصف واقعة الذبح هذه بأنها البلاء المبين أي : الابتلاء والاختبار المبين الذي يتميز فيه المخلص من غيره ، ولا ينطبق هذا الوصف ولا يتحقق هذا البلاء إلا إذا كان الذبيح هو إسماعيل الابن الوحيد البكر.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٥٠٦) برقم : (٢٩٤٦٩) بلفظ : العمل ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٨١) عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٧) ، بلفظ : العمل ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٨١)
(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٤ / ١٦١٧)