يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن فتنقمع الشهوات ، وتحترق بالخوف ، ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذّلة والاستكانة ، ويصير العبد مستوعب الهمّ بخوفه والنظر في خطر / عاقبته ؛ فلا يتفرغ لغيره ، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضّنّة بالأنفاس واللحظات ، ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات ، ثم قال : واعلم أنه لا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف ، انتهى.
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)(٢١)
وقوله سبحانه : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ...) الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية ما كانت قريش تقوله وتستدلّ به على إكرام الله وإهانته لعبده ، وجاء هذا التوبيخ في الآية لجنس الإنسان ، إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع ، و (ابْتَلاهُ) معناه : اختبره ، و (نَعَّمَهُ) أي جعله ذا نعمة.
و «قدر» بتخفيف الدال بمعنى : ضيّق ، ثم قال تعالى : (كَلَّا) ردّا على قولهم ومعتقدهم ، أي : ليس إكرام الله تعالى وإهانته كذلك ، وإنما ذلك ابتلاء فحقّ من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع ، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر ، وأما إكرام الله فهو بالتقوى وإهانته فبالمعصية ، و (طَعامِ) في هذه الآية بمعنى : إطعام ، ثم عدّد عليهم جدّهم في أكل التراث ، لأنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا صغار الأولاد ، وإنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة ، و «اللّمّ» الجمع واللّفّ ، قال الحسن : هو أن يأخذ في الميراث حظّه وحظّ غيره (١) ، والجمّ الكثير الشديد ؛ ومنه قول الشاعر : [الرجز]
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا |
|
وأيّ عبد لك لا ألمّا (٢) |
ومنه الجمّ من الناس ، ودكّ الأرض تسويتها.
(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى)(٢٣)
__________________
(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٧٤) ، (٣٧١٧١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٨٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن بنحوه.
(٢) تقدم.