وهذه الآية الشريفة تضمّنت أحكاما دقيقة في الشهادة ، وإقامة القسط لو عمل بها الأمة المؤمنة لأمكنها أداء الأمانة لنفسها وحملت ميزان العدل الرباني وطبّقته على الأرض بأحسن وجه وتخلّقت بالأخلاق الربوبيّة.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
تأكيد يلفت النظر ويسترعي الانتباه ، يدلّ على أنّ الّذين اتصفوا بصفة الإيمان لم يكونوا على أهلية تامّة ؛ لأنّه لم يرد من هذا النداء تحصيل الحاصل وما هو متحقّق بالفعل ، بل المطلوب أمر آخر مهم في نظر القرآن ، وهو إمّا الأمر ببسط الإيمان على جميع الجوارح والجوانح بعد أن كان مقتصرا على اللسان فقط ، أو الأمر بالثبات وزيادة الطمأنينة واليقين ، أو الأمر بالاستزادة منه ، أو التمسّك به والعمل على تنميته ، أو الاستقامة عليه حتّى لا يصيبه ما يوجب زعزعته ونقصانه ، فهو على كلّ حال يثير التساؤل في نفوس المؤمنين ويكشف لهم حقيقة خفية عليهم ، لما يلاقونه من الهموم والغموم وما يصيبهم من الكدح والملل في هذه الحياة.
ثم إنّ هذا النداء إجمالا يثير الهمم على كشف تفاصيله ، فإنّ الأمر بالإيمان مرّة اخرى على هذا النحو من الإجمال بعد التلبّس به ، يبعث المؤمن على طلب التفصيل ومزيد البيان ، فكأنّ في الإيمان المتلبسّ به نقصا لا بدّ من تلافيه.
كما يبيّن سبحانه وتعالى تفصيلا لقواعد الإيمان وأركانه ، قطعا لكلّ تساؤل وحسما لكلّ نزاع ، وتفصيلا لإيمان هذه الامة على إيمان سائر الأمم وإيضاحا لكلّ من الإيمان والكفر حتّى لا تبقى حجّة وعذر للمعرض المعاند.
قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ).
تفصيل بعد إجمال وبيان لحقيقة الإيمان ، وإرشاد للمؤمنين بأن المطلوب ليس إيمانا مبهما ، فلا بدّ من بسط إجمال إيمانهم على ما يفصّله عزوجل من الحقائق ، الّتي هي معارف ربوبيّة يرتبط بعضها مع بعض ، وبينها من التلازم بحيث يكون الإيمان بواحدة منهما مستلزما للإيمان بالأخرى ، كما أنّ إنكار واحدة منهما