الثاني : قد جمعت الآية الشريفة جميع ما يمكن فرضه من الأطراف في الشهادة الّتي يمكن أن يقع مورد الجنف والظلم ، فذكرت شهادة المرء على نفسه ، وفيها إقراره بالحقوق الّتي عليها. ثمّ ذكر الوالدين لوجوب البرّ بهما وعظم قدرهما ، ومن البرّ لهما الشهادة ولو كانت عليهما وتخليصهما من الباطل ، ثمّ ثنّى بالأقربين ، إذ هم مظنّة التعصّب والمودّة ، وأمّا الأجنبي فهو أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، فالآية الشريفة جمعت حقوق الخلق في الأموال وغيرها.
الثالث : إطلاق قوله تعالى : (شُهَداءَ لِلَّهِ) يعمّ الشهادة في الأموال وغيرها ، خلافا لما ذكره بعض المفسّرين من اختصاصها بالشهادة في الأموال ، بقرينة قوله تعالى : (عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ) ، ولكنّه ليس بشيء كما هو معلوم.
كما يدلّ قوله تعالى أيضا على ردّ كلّ شهادة لم تكن لله تعالى ، فتردّ شهادة المتّهم والكافر على المسلم وغيرهم ممّا هو مذكور في الفقه.
الرابع : يمكن أن يكون قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) إشارة إلى مقام الحضور ومظهريّة العبد لصفات الله تعالى وتوحيده ، فإنّه عزوجل بعد أن أمر المؤمنين بالتوحيد العملي في الآيات الكريمة السابقة ، أمرهم في هذه الآية الشريفة بالثبات عليه والتلبّس بالعدالة الّتي هي أشرف الفضائل وأسماها ، وهي من الصفات العليا الّتي أمر عزوجل المؤمنين بالتحلّي بها بعد أن علم منهم الأهليّة ، وأنّ بها تقوم سائر الفضائل والمكارم ، فلا قوام لها بغيرها ، وأنه لا بدّ أن يكون المؤمن قواما بحقوقها لا تظهر معها رذيلة ولا اتباع هوى ولا جور ، فينال مقام جنّة اللقاء والقرب لديه عزوجل ، ويكون شهيدا لله تعالى مظهرا من مظاهر وحدانيّته وكمال صفاته ومرآة لحقية أحكامه المقدّسة ، فلا نظر له إلّا الله تعالى ورضاه وليس للغير فيه مطمع ، وهذا من أجلّ المقامات وأعلاها ، ولا يمكن الوصول إليه إلّا بالعمل بهذه الآية الشريفة وتطبيقها تطبيقا كاملا في جميع الأمور ، فيكون اتباع الهوى من موانع الوصول إلى هذا المقام العظيم ، فإنّه من ترك اتباع الهوى يستعد للاتّصاف بصفة العدالة ويتهيّأ لمقام الشهادة بالوحدانيّة.