وبهذا الأمر فاق على جمع كثير من الأنبياء عليهمالسلام ، ويشهد لهذا أنّ الناس إذا وصفوا شيئا في غاية الطهارة والنظافة قالوا : إنّه روح ، ولما كان عيسى لم يتكوّن من نطفة الأب ، بل كان بأمر صادر منه عزوجل ونفخة من روح القدس ، وصف بأنّه روح منه.
وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المتكلّفين من النصارى ، حيث تمسّك بقوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ) ؛ لإثبات دعواهم في المسيح عليهالسلام من كونه جزءا منه عزوجل ، جاعلا (من) للتبعيض والجزاء الآخر هو روح القدس الّذي انبثق من الأب ، بل إنّه عينه ، ويستدلّون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح : «ومتى جاء المعزى الّذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الّذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي» ، وبعضهم عبّر عن الانبثاق بالخروج.
وكيف كان ، فإنّ الآية المباركة بمعزل عن ما ذكروه ، وإنّ (من) في المقام لا تكون تبعيضيّة ، بل هي للصدور ، ونظيره ما ورد في شأن آدم عليهالسلام ، قال تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة ص ، الآية : ٧٢].
قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).
تفريع على صدر الكلام ، أي : فإذا عرفتم أمر عيسى بن مريم عليهالسلام فآمنوا بالله وحده الّذي اختصّ بالالوهية ، وجمع جميع صفات الكمال وتنزّه عن جميع صفات الجلال. وآمنوا برسله كلّهم بوصف كونهم رسل ربّ العالمين ، ولا تخرجوا واحدا منهم الى ما يستحيل وصفه من الألوهيّة ونحوها ، فهم عبيد مأمورون خصّهم عزوجل بالفيض وأنزل إليهم الوحي.
قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ).
ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة ، وهي المعرفة عندهم بالأقانيم ـ وهم الأب ، والابن ، وروح القدس ـ فالله عندهم واحد بالجوهر وثلاثة بالأقانيم ، أي : أنّ كلّ واحد منها عين الآخر ، وكلّ منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد.
ويمكن أن يكون المراد من الثلاثة هي الّتي حكى عزوجل عنها في قوله