إنّه نداء توجيه وتربية تعدّ الامة إعدادا كاملا لتحمّل الأمانة الكبرى ، وتحتل الصدارة بين الأمم ، إنّه نداء للتحبّب وليس للإنذار والتخويف ، فقد تضمّن هذا الخطاب العطف والرحمة من ربّ رؤوف رحيم ، يعلم جميع مصالح عباده ويدعوهم فيه إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة ، ولأجل ذلك كان هذا الخطاب من المواضع المعدودة القليلة جدا في القرآن الكريم الّتي يذكر فيها جزاء المؤمنين وحدهم دون أن يذكر في مقابلها جزاء الكافرين المعاندين.
والآية المباركة تدلّ على أنّ الحجّة قد تمّت على الناس ولزمتهم ، فلم يبق بعد ذلك عذر لمتعذّر ، ولا علّة لمتعلّل ، قال تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [سورة الانعام ، الآية : ١٤٩] ، وتقدّم قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء ، الآية : ١٦٥].
والبرهان : هو بيان الحجّة يأتي مصدرا كما في المقام ، ويأتي بمعنى الفاعل في ما إذا اطلق على نفس الدليل والحجّة ، ومنه إطلاقه على النبي صلىاللهعليهوآله.
والمعنى : أنّه قد جاءكم من قبل ربّكم الّذي تكفّل تربيتكم وتزكية نفوسكم ما فيه الحجّة القاطعة الّتي يبيّن فيها حقيقة إيمانكم وجميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم وآخرتكم ويتضمّن سعادتكم ، وهو عامّ يشمل جميع ما يكون من قبله عزوجل ممّا له دخل في هداية الإنسان ـ كالأحكام الشرعيّة ، والتوجيهات الربوبيّة ، والحقائق الواقعيّة ـ ونفس الرسول الكريم صلىاللهعليهوآله فإنّه برهان عظيم ، ومظهر الحقّ ، ومصداق العدل والقسط بين حقيقة الشريعة وواقعها بسيرته العمليّة ، فهو معلّم البشريّة حقائق العلوم الإلهيّة والتوجيهات الربوبيّة ، ومظهر صفات الخالق العظيم ، ومعجزة الدهر ، فهو خير برهان وأتمّ دليل ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٢١].
قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).
تأكيد لما سبق إذا كان المراد من النور هو البرهان ، فإنّه نور بيّن في نفسه