قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).
الإهلال : رفع الصوت ، ومنه إهلال الصبي إذا رفع صوته عند ولادته ، والمراد به ذكر ما يذبح له كاللات والعزى وغيرهما من الأصنام ، بل ما سوى الله تعالى ، فإنّ ذكر غيره جلّ شأنه وذبح الحيوان له يوجب حرمة الذبيحة ، وإن استجمعت باقي الشرائط ، كما هو مذكور في الفقه.
وهذه الآية المباركة تؤكّد حرمة هذه الأربعة ، فليس الحكم فيها تأسيسيّا لورودها في غير هذه السورة ممّا هي أسبق نزولا منها ، فقد ذكرت في سورتي الأنعام والنحل ، وهما سورتان مكّيتان ، ووردت فيهما بصيغة الحصر ، قال تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الانعام ، الآية : ١٤٥] ، وقال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ* إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ١١٤ ـ ١١٥] ، كما ذكرت في سورة البقرة الّتي هي أسبق نزولا من هذه السورة وإن كانتا مدنيتين ، قال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٣] ، فتكون هذه الآية الشريفة مؤكّدة لتلك ومشتملة على زيادة من المحرّمات.
وممّا يؤكّد ذلك تشابه ذيل الآيات الثلاث في حلّية تلك المحرّمات عند الاضطرار والمخمصة إذا لم يكن متجانفا لإثم ، فإنّ الله غفور رحيم ، بل يمكن أن يقال إنّ النهي عن الثلاثة الاول ـ أي الميتة والدم ولحم الخنزير ـ أسبق تشريعا من كلّ ذلك ؛ لأنّ آية الأنعام تعلّل الحرمة فيها بأنّها رجس ، فتدلّ على النهي عن أكل الرجس ، وهو المرجع ، وقد قال تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [سورة المدثر ، الآية : ٥] ، وسورة المدثر أسبق نزولا من جميعها ، فإنّها نزلت في أوّل البعثة.