الخامس : لو تحقّق الاضطرار من غير مخمصة ، بل كان لأجل التداوي مثلا يعتبر فيه أيضا أن لا يكون متجانفا لإثم ، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥].
السادس : أنّ المستفاد من سياق الآية المباركة أنّه لو اضطر الى أكل ميتة حال المخمصة ، ولم يكن متجانفا لإثم ولم يأكل ـ أو صام ـ فمات أثم ؛ لأنّه أعان على نفسه وخالف تكليفه ، فإنّ حفظ النفس واجب شرعا وعقلا.
وأمّا لو امتنع عن التداوي بالميتة أو بالخمر حتّى مات ، فإنّه لا يأثم لأنّه لا يعلم أنّ الميتة أو الخمر يشفيه. نعم لو علم ذلك ولم يأكلها ـ أو لم يشربها ـ كان حكمه حكم الفرع الأوّل ، والله العالم.
بحث عرفاني
ظاهر الآية المباركة وإن كان خطابا للمؤمنين بإبلاغهم تكاليف توجب رقّي نفوسهم وتنوير قلوبهم ، ولكن يحتمل أن يكون باطنها عتابا لأهل السير والسلوك الّذين يطلبون الحقّ ويسعون للوصول الى الحقيقة بهجر الدنيا لنيل رضاه تعالى ، فناداهم ربّهم جلّ شأنه بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي : الدنيا بأسرها ، ففي كثير من الروايات التعبير عن الدنيا بالميتة ، فعن جعفر بن محمد الصادق (عليه أفضل الصلاة والسلام) : «والله لقد نزلت الدنيا منزلة الميتة متى اضطررت إليها أكلت» ، فحرّمت الدنيا على الطالبين للحقّ والسالكين الى ساحة قربه ، (وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) كذلك حرّمت عليهم الصفات الّتي توجب البعد عن الأخلاق السامية كالحرص والقسوة ، بل حرّمت عليهم جميع ألوان الدنيا ومتغيّراتها حتّى الحلال منها فكيف بالحرام. (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وأيضا حرّمت عليهم كلّ فعل رفع صوت النفس بالأمر به ؛ لأنّ صوتها لغير الله تعالى ، (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) وكذلك حرّم عليهم اختناق فطرته الداعية الى الله العظيم بمخالب