قوله تعالى : (إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ).
بيان بأنّ العذاب وجودا وعدما إنّما هو يرجع الى كفرهم ، أو شكرهم وإيمانهم ، فلا موجب لعذابكم إن شكرتم الله تعالى على ما أنعم عليكم من الفواضل والفضائل وآمنتم به وعملتم بشرائعه وتعاليمه المقدّسة.
وقد ذكر المفسّرون في وجه تقديم الشكر على الإيمان وجوها :
منها : أنّ الشكر يستدعي معرفة النعمة ، وهي تقتضي معرفة المنعم ثم الإيمان به.
ومنها : أنّ الشكر طريق موصل الى الإيمان ، بل هو أولى درجاته.
ومنها : أنّ الكلام مبني على تقديم المؤخّر ، أي : آمنتم وشكرتم. وقيل غير ذلك ، ولا يخفى ما في بعضها من المناقشة والخروج عن الذوق البلاغي.
والحقّ أن يقال : إنّ الآية المباركة تشير الى معنى أدق مما ذكروه ، وهو أنّ الشكر من شؤون العبوديّة الّتي خلق الله تعالى الجن والإنس لأجلها ، قال عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥] ، والعبوديّة جوهرة تتضمّن جميع الحقوق على المخلوق اتّجاه خالقه ، والشكر لله عنوان العبوديّة ومن أهمّ أماراتها ؛ لأنّه يوجب صرف جميع ما أنعم الله تعالى على العبد في ما خلق لأجله ، وبه يستعد الإنسان لنيل الفيض من خالقه المنعم عليه ، فهو من أوثق الروابط بين المنعم والمنعم عليه ؛ ولذا ورد التأكيد على الشكر في عدّة مواضع من القرآن الكريم حتى عدّوه من الحقوق الّتي تدعو الفطرة بمراعاتها وأدائها ؛ لأنّه يستدعي معرفة النعمة والمنعم.
والكفر يعني الخروج عن ناموس الفطرة وقطع تلك الرابطة وتحدّي ناموس الكون ، وهو يعني الخروج عن شريعة الله تعالى واتّخاذ المذاهب والشرائع الّتي هي من صنع البشر ، وهذا يعني حدوث الفساد في الأرض.
ودفعا لذلك لا بدّ من الشكر ومراعاة النعمة وأداء حقّ الخالق المنعم بها علينا ، ثم يستتبع الإيمان عن قاعدة رصينة واعتقاد جازم ، ولعلّ الإتيان به في