الإيمان والكفر ينافي الجبر عليها والالتزام بأحدهما ، ويدلّ عليه أيضا امور يستفاد من الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها.
منها : أنّه لو كان مجبورا لما اختلف في الإيمان والكفر ، ولم يكن متردّدا بينهما ، ثم الازدياد في الكفر ، والتوغّل في الطغيان ، فإنّ ذلك ينافي الجبر كما هو واضح.
إن قلت : إنّ الجبر قد يتعلّق بذات التردّد أيضا ، كما يتعلّق بالإيمان أو الكفر.
قلت : على فرض كون الجبر يتعلّق بالتردّد أيضا وكان له وجه معقول ، ولكن الازدياد والطغيان الحاصلان من العبد في كلّ من الإيمان والكفر ينافي الجبر ولا يتعلّق بهما ، فإنّ كلا منهما من فعل العبد واختياره.
ومنها : أنّ الجزاء الّذي ترتّب على الكفر والارتداد عظيم جدا ؛ لعظمة الذنب الّذي اقترفوه ، وهو عدم الغفران وعدم اهتدائهم السبيل والعذاب الأليم ، وهو يدلّ على اختيارهم ، إذ لا وجه للجزاء على فعل يكون الإنسان مجبورا على إتيانه.
كما يدلّ على نفي التفويض أيضا ، فإنّه غير معقول أن يفوض الله تعالى الأفعال الى العباد ، ولم يهدهم سبيلا للرشاد ، ولم يوفقهم الى خيرهم وسعادتهم ويبعدهم عن رحمته.
ومنها : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) فإنّ الاتّخاذ نصّ على الاختيار مادّة وهيئة كما هو واضح ، إذا لا جبر في البين ؛ لأنّ الاتّخاذ فعل العبد ، فيدلّ على الاختيار ، كما في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥٧] ، وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) [سورة التوبة ، الآية : ٣١] ، وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) [سورة النساء ، الآية : ١٥٣] ، بخلاف (أخذ) فإنّه أعمّ كما في قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) [سورة الذاريات ، الآية : ٤٤] ، وقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٤١].
وقد استعمل القرآن هذه الهيئة (اتخذ) في التردّد والعصيان غالبا ، بخلاف الأخذ كما عرفت.