فالتوفيق له أثر كما أنّ لبقية الأمور من الزمان والمكان لها الأثر في تحقّق المعلول. وقد تقدّم في أحد مباحثنا ما يتعلّق بالمقام فراجع.
الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) على أنّ التقلّب في الكفر يوجب الطغيان على الله تعالى والتمرّد على تعاليمه. فإنّ من أنس بالكفر وطبع قلبه عليه وتمرّن على الردّة وكان الإيمان والطاعة عنده أهون شيء ، كيف يمكن أن يكون مؤهّلا للمغفرة ومهيئا للهداية؟! وهو يوجب فساد الفطرة وانتشار الفساد وتغلّب الشرّ ، وفي ذلك ضياع للإنسانيّة.
ولا تختصّ تلك بالتقلّب في الإيمان والكفر والارتداد ، بل الإصرار على ارتكاب المعاصي والآثام والتطبّع عليها والتقلّب فيها توجيها أيضا. ألا ترى أنّ ما أصاب الإنسانيّة الحاضرة من الجاهليّة البغيضة ليست إلّا نتيجة ارتكاب المعاصي والخروج عن طاعة الله تعالى ، وهو ممّا حذّرنا الله تعالى عنه بأحسن بيان وأبلغ أسلوب ، ويكفي لوصول الإنسان الى المرتبة الدانية الّتي يعبّر عنها عزوجل ب (أَسْفَلَ سافِلِينَ) [سورة التين ، الآية : ٥] عدم تأثير تلك المواعظ البليغة في تلك القلوب الّتي طبعت على التمرّد والأقسى من الحجارة ، وقد أثّرت في القلوب الّتي كانت في عصر النزول مع ما عليها من الانحطاط والتخلّف والبعد عن الحقّ والواقع ، فما أبعد ما بين الجاهليتين ، وما أشدّ الثانية وأقساها ، فقد أنست الإنسان نفسه ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٨ ـ ١٩] ، ولا يمكن أن يتصوّر أمر أشدّ خطرا على أحد أن ينسى نفسه ولا يدري أنّه إنسان شرّفه الله تعالى على سائر خلقه ، وهو من المهلكات ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.
الثالث : يدلّ قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أنّ