وممّا ذكرنا يعرف السرّ في الابتداء بهذا النداء ؛ لأنّه يعدّ المؤمن لتلقي حكما إلهيا عظيما ويهيّئوه للدخول في الأفق الأعلى.
قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ).
إرشاد إلى حقيقة واقعية ، وهي : أنّ الإنسان لا يمكن له الوصول إلى ما خلقه الله تعالى لأجله الّذي فيه كماله وسعادته ، ولا يصحّ له أداء الأمانة الكبرى الّتي عرضها سبحانه وتعالى على السموات والأرض والجبال وأشفقن منها وحملها الإنسان ، أنه كان ظلوما جهولا. فإنّ هذه الأمانة لا تقوم إلّا بإقامة القسط ، ولا تصلح هذه الأمة المرحومة ـ الّتي جعلها الله تعالى قائدة ورائدة لسائر الأمم وحمّلها مقام الشهادة على سائر الخلق ـ لهذه المهمة الكريمة إلّا بهذه الصفة وهي أن تكون قوامة للقسط والعدل فقط لا لهوى ومصلحة وغيرها ، ولا يكون هدفها سوى إقامة القسط وبسط العدل والشهادة لله تعالى ؛ لأنّ هذه الصفة من أتمّ الأسباب لاتّباع الحقّ وإقامته وملازمة الصدق والدنو إلى مقام الرضا.
والقوام : من القيام بالشيء ، أي المواظبة عليه وملازمته ، وهي من صيغ المبالغة ، وقد أوضحنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه لا معنى للمبالغة في الاستعمالات الواردة في القرآن الكريم ؛ لأنّها ضرب من الادعاء ، وهو لا يصلح لمقام هذا الكتاب الإلهي العظيم ، بل يمكن أن يقال إنّ أبنية المبالغة الملحقة بالكلام العادي الّذي يحاول صاحبه أن يجتنبه عن ما يبعده عن الواقع بعيد ، فيراد من استعمال هذه الصيغ في أمر إلفات النظر وتوجيه المخاطب إلى التمسّك به بشدّة وإتيانه بأتمّ الوجوه وأكملها وأدومها ، ففي المقام يراد به شدّة القيام بالقسط وملازمته على كلّ حال وإقامته على أحسن الوجوه وأكملها والاحتراز عن الجور ، ففي هذا الأسلوب دلالته الواضحة ، وهو يلفت النظر دون سائر التعابير. هذا ما يستفاد من أسلوب المبالغة ، وهو يرشد إلى أنّ القسط والعدل وسائر الأمور الدينيّة لا اعتبار بها ما لم تكن مستقرة دائمة ، فلا تكفي المرّة أو المرّات ، بل لا بدّ أن تكون ملكة راسخة ، وفي المقام لا بدّ من القيام بالقسط حتّى يصير عادة لهم داخلة في واقع إيمانهم وجزءا لا ينفكّ منه.