وعذابهم هذا يختلف عن البلايا والمحن ، التي تقع على المؤمنين وأولياء الله تعالى ، فإنّها ليست مؤاخذة على ذنب عملوه ، ولا عذاب بسبب معصية اقترفوها ، ولا هي ناجمة عن سخط إلهي نكالا ووبالا عليهم ، بل هي لزيادة القرب والدرجات ونيل الكمالات أو للتربية وتهذيب النفس والسريرة ، فهي بالأحرى نعمة وكرامة على المؤمنين وعذاب ووبال على الكافرين المعاندين ، وفي الأثر المعروف : «البلاء للولاء» ، وفي الحديث : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء عليهمالسلام ، ثمّ الأمثل فالأمثل» ، وقد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ البلايا والمحن والمصائب الدائرة في هذا العالم إنّما يشترك فيها المؤمن الصالح والفاجر الصالح على حدّ سواء ، وهي من سنّة الله تعالى على خلقه ، وإنّما تختلف من حيث الأثر والعنوان والغرض ، فإنّها للمؤمنين كرامة ومنحة ربانيّة حاصلة من محبّة إلهيّة لهم ، وعذاب ونكال لغيرهم ، كما أثبتنا ذلك غير مرّة ، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠ ـ ١٤٠] ، فإنّه عزوجل جمع بين النوعين من البلاء الواقع على الطائفتين ، وبيّن تعالى أنّه يختلف من حيث الأثر والعنوان والغرض.
قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).
بيان للأمر الثاني من الأمور التي احتجّ الله تعالى بها عليهم ، وهو الردّ عليهم بما هم معترفون به ، فإنّهم لا ينكرون أنّهم من أفراد البشر من جنس ما خلقه الله تعالى من غير مزيّة لهم على غيرهم ، ويتضمّن هذا الدليل نفي البنوّة عنهم مطلقا ، فإنّ البشر لا يصلح لأنّ يكون ابنا لله جلّت عظمته ، لإمكان صدور القبيح والزلّات والهفوات منه ، وأنّه يؤخذ بما يصدر منه ، والابن مسانخ لأبيه ، فإذا ادّعوا بنوّتهم له تعالى ، فلا بدّ أن لا يصدر منهم ذلك ولا يؤاخذوا بما يصدر منهم.
قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).
تتمّة للدليل السابق ، ويمكن أن يكون نتيجة الأدلّة التي تناقض دعواهم ،