وامتنعوا عن الامتثال ، ولا بأس به أيضا ، فإنّه يرجع إلى الأوّل ، فإنّ كلّ واحد منهما يملك نفسه على الطاعة والامتثال ، فكان يملك موسى أخاه هارون على السمع والطاعة له ، فإنّ طاعته من طاعة الله ، كما يملك الخلّص من المؤمنين به على قلّتهم.
قوله تعالى : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).
دعاء منه عليهالسلام في القضاء الفصل وبيان الحكم العدل من دون طلب للعذاب الإلهيّ عليهم ، فإنّه عليهالسلام كان الشفيق عليهم من السخط الربوبيّ وحريصا عليهم من نزول النقمة ، ولكنّه كان يعلم أنّ بقاءهم كذلك يفوّت الغرض الذي بعث لأجله إليهم ، فلا بدّ من معالجة الموضوع وإصلاحهم وتهذيب نفوسهم ، فاختار عزوجل التيه وكتبه عليهم ، وهو أمر تربويّ إصلاحيّ ، وإن تضمّن المشقّة والعذاب عليهم ، فإنّه لا بدّ منه ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، فإنّه وعد منه عزوجل على عدم نزول العذاب عليهم وإنّما هو تربية وإصلاح.
والآية المباركة تدلّ على أنّهم بإعراضهم عن الطاعة والامتثال ومجابهة رسولهم بأسوأ كلامهم ، قد خرجوا عن خالص الإيمان والتوحيد ودخلوا في التشبيه وارتكبوا إثما كبيرا.
ومادة (فرق) تدلّ على الفصل والتمييز. ومنه فرق الشعر إذا فصله وميّز بينه ، ومنه القضاء وفصل الخصومات ، قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [سورة الدخان ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٥] ، وقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣] ، وهذا هو المراد به هنا ، أي : الفصل بينه وأخيه عليهماالسلام وبين قومه الذين عاندوه وأعرضوا عن طاعته بالحكم العدل ، وهو يدلّ على حصول البينونة والمباعدة بين الطائفتين بسبب فسقهم ، فقد صارا خصمين.
والفرق هو الفصل بين شيئين ، وقال بعضهم : فرقت ـ بالتخفيف ـ في المعاني ، وفرّقت ـ بالتشديد ـ في الأعيان ، كما يقال : فرقت في الكلام ، بالتخفيف ، وفرّقت بين العبدين ، بالتشديد.