الوفي لأخيه والمطيع لأوامره وتعليماته والمنفذ لتشريعاته ، حتّى انتهى به الأمر إلى جعل نفسه بين يديه ، فصار موسى عليهالسلام مالكا لها كما ملك نفسه ، وهذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب الطاعة لله تعالى ولنبيّه عليهالسلام ، ولم يصل إلى هذه المرحلة إلّا إذا ملك نفسه بالمجاهدة.
ومن هنا تعرف أنّه لا فرق بين أن نقول : إنّ كلمة (أخي) عطف على (نفسي) ، أو على الضمير في (لا املك) فإنّ أحدهما يلازم الآخر كما هو معلوم.
الثامن : يدلّ قوله تعالى : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، على أنّ الفسق والخروج عن الطاعة يوجب البينونة بينه وبين الله تعالى وأنبيائه العظام ، فإنّ بني إسرائيل أعرضوا عن الطاعة وفسقوا عن أمر ربّهم وتعليماته ، ولذا طلب موسى عليهالسلام أن يفرّق بينه وبين قومه بحكم يكون فيه الفصل والحدّ عن فسقهم وطغيانهم ، وذكرنا أنّ هذا الدعاء منه عليهالسلام لم يكن طلبا لنزول العقاب عليهم ، فإنّه عليهالسلام جاهد جهادا مريرا معهم حتّى أوصلهم إلى هذه المرحلة من حياتهم ، فلا بدّ من علاج ذلك حتّى لو استلزم المشقّة الشديدة ، فكتب الله تعالى لهم التيه ، وقد كان موسى وأخوه عليهماالسلام في غنى عنه ، ولكنه جعل نفسه ونفس أخيه تحت إرادته ومشيئته تعالى. ومن هنا يظهر السرّ في تقديم (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) على دعائه.
التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ، مناسبة العقاب مع العصيان ، فإنّهم أعرضوا عن طاعة الله ورسوله ولم ينفذوا ما أمرهم تعالى بدخول الأرض المقدّسة الذي أراد عزوجل منه استقلالهم وتطبيق شريعته فيها ، وقد جابهوا نبيّهم أسوء مجابهة ، وأظهروا ما هو كامن في نفوسهم من التردد والحيرة والاضطراب ولم يبدوا العزيمة ، فكان ذلك سببا في الدخول في التيه الذي هو الحيرة والاضطراب أيضا ، ولكن فعل بهم هذا في الأرض لتمرين نفوسهم على تحمّل المشاقّ وقبول المتاعب والصعاب ، فتستقر على أمر واحد ، بخلاف ما كانوا عليه قبل التيه من اضطراب فكري ، وضعف في الإرادة والصعوبة في قبول الخير