العذاب لامّة لا تعرف الحياة الكريمة وهي في عمى وجهالة.
ومن جميع ذلك نعلم أنّ حقيقة التيه تبتني على إصلاح الفكر والنفس عن طريق ترويضها على تحمّل المشاق وتربيتها على حرية البداوة ، وفق منهج إصلاح تربويّ ، لطرد ما يكمن في النفس من مفاسد الأخلاق وغرس مكارمها ، وهذا يحتاج إلى وقت طويل تبعا لشدّة تلك المفاسد وقوّتها ومقدار رسوخها في النفس وكميتها ، فكانت مدّة التيه أربعين سنة ، وهي ليست بكثيرة بعد ما عرفت من مفاسد أخلاقهم وشدّة عنادهم ولجاجهم.
أسباب التيه :
لا شكّ أنّ ما يجري في هذا العالم إنّما يكون وفق قانون الأسباب والمسبّبات ، لكن قد يكون بعض الأسباب معروفة ، وربما يكون بعضها الآخر قد خفي علينا ، ولا بدّ حينئذ لمعرفتها من علم إلهيّ ، إما عن طريق الوحي أو الإلهام.
والتيه الذي وقع فيه بنو إسرائيل لم يخرج عن هذا القانون ، فإنّ له أسبابا متعدّدة.
منها : ما يرجع إلى ضعف الروح المعنويّة عندهم بسبب الظلم المستمر عليهم وتربيهم على الذلّ والصغار ، فخارت قواهم واحتقروا أنفسهم ، ويستفاد هذا من قوله تعالى حاكيا عنهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).
ومنها : الاضطراب الفكريّ الذي حصل لهم نتيجة العبوديّة المفروضة عليهم أثناء وجودهم في مصر ، فإنّ شعور الفرد بأنّه مسلوب الإرادة ممنوع من كثير ممّا خلقه الله تعالى لعباده في الأرض ، لهو كاف في فقدان الأمل وإخماد غريزة الاستكمال فيه وإيقاعه في حيرة واضطراب فكريّ.
ومنها : فساد الأخلاق ، لأنّ الشعوب التي تنشأ في عهد الاستبداد والتي تستأنس بالظلم والاضطهاد ، تفسد أخلاقها ويذهب بأسها وتذلّ نفوسها وتشعر بالذلّ والمسكنة وتألف الخضوع ، وإذا طال زمان الظلم تترسّخ هذه الأخلاق في النفوس وتصير مغروسة حتّى تكون كالغرائز والطبائع.