وفي هذه المدّة لا هم مدنيّون يعيشون عيش السعة ، ولا هم بدويّون يعيشون عيشة القبائل ، وكانوا في العذاب الاصطلاحي والدوران التربويّ والمجتمع الفاقد للنظام ، فتمزّقوا وتفكّكوا ولم يبق منهم إلّا أقلّ القليل ، فدخلوا الأرض المقدّسة.
الحوادث في التيه :
ينقل المؤرخون كثيرا من الحوادث التي وقعت في التيه ، ولكنّ تلك تحتاج إلى دليل يعتمد عليه ، والمهم هو أنّ التيه ـ كما عرفت ـ عملية تأديبيّة تهذيبيّة إصلاحية أرادها الله تعالى لهم.
ولا ريب في أنّ مثل هذه العملية تحتاج إلى ظروف وأحكام خاصّة تتلائم مع وظيفة التأديب والطبيعة التي وقع فيها التيه ، والهدف الذي كتب لأجله على بني إسرائيل ، ولم يخلو من بعض المعاجز والكرامات ، إتماما للحجّة عليهم ، ونذكر في المقام بعض ما ذكره المؤرخون ووردت به بعض الروايات.
منها : أنّهم هاموا في الأرض وتاهوا فيها ، فكانوا يمشون في الأرض طول اليوم ، فإذا حلّ بهم الليل قطنوا في مكان وناموا فيه ، ثمّ إذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي ابتدءوا السير منه ، وقد ذكر العلماء في تفسير ذلك وجوها ذكرنا بعضها في البحث الروائي.
ويمكن أن يكون ذلك عقوبة إلهيّة جرّاء شنيع أفعالهم ، أو لأنّهم لم يعرفوا حدود تلك الأرض التي وقع فيها التيه ولا مسارها وسائر خصوصياتها ، فكانوا يهيمون في الأرض تائهين ، فإذا تعبوا حلّوا في مكان لم يعرفوا أنّهم في نفس المكان الذي ابتدءوا منه السير.
ومنها : موت أكثرهم ، بل جميع الذين خرجوا مع موسى عليهالسلام من مصر ، إلّا يوشع وكالب ، لعصيانهم وتمرّدهم على الله تعالى ورسوله بعد ما أرآهم عزوجل عجائب الآيات ، فأخذهم الله بذنوبهم وأهلكهم وأنشأ من بعدهم جيلا هم أقرب إلى تقبّل الأحكام ، وعدل الشريعة من آبائهم ، وجعلهم الوارثين للأرض المقدّسة.