والتأمّل في أحوال قابيل وارتداده عن شريعة آدم عليهالسلام ، أنّ المراد من التقوى هنا هو الموت على الإيمان ، لا التقوى الخاصّ ، فكيف بالأخصّ ، فلا يصحّ التمسّك بهذه الآية الشريفة لعدم قبول أعمال فساق المؤمنين إن ماتوا على الدين الحقّ ، ويمكن استظهار ذلك من جملة كثيرة من الأخبار ، ومن قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٧ ـ ٨].
وكيف كان ، ففي الآية الكريمة العبرة والموعظة للعاملين بأن لا يغترّوا بأعمالهم ، إذ المناط كلّه هو التقوى ، فما أنعى هذه الآية الشريفة على العاملين أعمالهم وهي ترشد المؤمنين إلى إزالة ما يكون مانعا عن قبول أعمالهم.
قوله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ).
بيان لخلق كريم من مكارم الأخلاق التي تحثّ الشرائع الإلهيّة إليها ، وتحرّض الناس على التحلّي بها ، وهو يرشد إلى أصل من اصول الأديان السماويّة ، وهو أصل احترام الدماء والنفوس ، الذي يعدّ من القواعد المهمّة في الفقه الإسلامي ، وفيه من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة ما يكون سببا في السعادة والفلاح ونيل الكمالات ، ويبيّن أنّه لا بدّ من نبذ روح الانتقام وعدم إضمار السوء والشرّ بالنسبة إلى الآخرين ، حتّى إذا أرادوا الشرّ له ، لأنّ السبب في ذلك هو الخوف من الله تعالى ، الذي هو من أسمى الغايات وأجلّها.
ومن ذلك يعرف أنّ ذلك لا ربط له بمسألة وجوب الدفاع عن النفس وإن أدّى إلى القتل إذا توجّه الضرر إليها ، لأنّ المسألة تبيّن حكما شرعيّا في ظروف خاصّة ، في حين أنّ الآية المباركة تبيّن حكما أخلاقيّا يعدّ من الكمالات الواقعيّة ، فإنّها تدلّ على أنّ أحد الأخوين أضمر السوء لأخيه وأخبره بأنّه يريد قتله ظلما وعدوانا ، إلّا أنّ الأخ الآخر أظهر عدم إضمار السوء له ، ولم يرد أن يقابل الجناية بمثلها ، لا جبنا ولا خوفا منه ، بل خوفا من الله تعالى فقط ، فإنّه يرى سعادته في ذلك ، فهو وإن كان يحقّ له دفع الظلم عن نفسه ، لكنّه اختار شقاء أخيه باختياره