ووساوس ، فإن تغلّب إحدى القوّتين على الاخرى لا تكون بسهولة ، إلّا إذا اعتادت النفس على إحداها ، فتكون طوع إرادة الإنسان ، وهذا ما تدلّ عليه كلمة «طوّعت» ، التي هي أبلغ من (أطاعت) ونظيراتها ، فإنّ الاولى تدلّ على الانقياد التدريجيّ ، كما أنّ الإطاعة تدلّ على الدفعيّ ، فيستفاد منها أنّ النفس لم تصل إلى الطوع والانقياد إلّا بعد اقترابها إلى الفعل السيء تدريجا ، وفي خطوات حثيثة ، ويدلّ على ذلك سياق الآية المباركة ، فإنّها تبيّن المراحل التي تقدّمت على الفعل ، فابتدأت بإثارة النفس بقبول قربان هابيل دون قربان قابيل ، وقد بيّن أوّل السبب في عدم قبول قربان الأخير وكان عليه إزالة المانع ، إلّا أنّ الإثارة تلك تبدّلت إلى حسد رهيب في النفس استولى على مشاعره ، فنشأت الإرادة إلى القتل ، ثمّ الجزم إليه بعد انقياد النفس الأمّارة واستيلائها على العقل والفطرة ، فوقع القتل.
فالآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن واقع النفس الإنسانيّة ، والصراع الواقع بين قوى الشرّ وقوى الخير ، ولتجاذب الواقع بين دواعي الحكمة والموعظة ، وصوارف الفطرة ودواعي النفس الأمّارة.
وبالجملة : أنّ هذا التنازع يحسّ به كلّ إنسان عند إرادة ارتكاب جريمة ، أو فعل شنيع ، كما تدلّ عليه آيات أخر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، وسيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف المفسّرون في معنى «طوّعت» ، فذكر بعضهم بأنّها تأتي بمعنى شجّعت ، وآخرون بمعنى زيّنت ، فيكون قوله تعالى : (قَتْلَ أَخِيهِ) مفعولا به. وقيل : طاوعت أي : طاوعت له نفسه في قتل أخيه ، فالقتل منصوب بنزع الخافض.
والحقّ أن يقال : إنّ ذلك وإن كان صحيحا إلّا أنّ لها دلالتها الدقيقة ، لا تظهر في الذي ذكروه في المقام كما عرفت ، فقد انقادت له نفسه في قتل أخيه وأطاعت أمره بعد سلسلة من الصراع والتجاذب بين النفس الأمّارة والفطرة والعقل ، فكانت طاعة تدريجيّة بتذليلها ، وهذا المعنى لا يظهر في ما ذكره المفسّرون.