الموت بوجه من الوجوه ، كانقاذ الغريق وفكّ الأسير ونحو ذلك ، فكأنّما أحيا الناس ، لأنّ الإنسانيّة حقيقة واحدة في جميع الأفراد ، ويشترك فيها الفرد كما يشترك فيها الأفراد ، ولازم ذلك أنّ قتل نفس واحدة بمنزلة قتل الجميع وإحيائها بمنزلة إحياء الناس جميعا ، وأنّ الباعث في الصورة الأخيرة هو احترام الإنسانيّة ومعرفة قيمة الحياة ، ونزعة الشفقة والرحمة التي هي من صفات الباري عزوجل ، فيكون إحياء نفس واحدة احتراما للإنسانيّة وقياما بحقوقها.
يضاف إلى ذلك أنّ الآية الشريفة ترمز إلى معنى أدقّ ، وهو الإشارة إلى الطبع الإنسانيّ المشتمل على الهوى ، والحسد ، ونزعة التقلّب ، وحبّ التسلّط على الغير ، فإذا كبح جماح هذه النزعة وجعلها تحت زمام الحكمة والعقل ، تحقّقت السعادة والصلاح ، ووصل الفرد والمجتمع إلى الكمال المنشود ، وصارا من مظاهر الخالق والمعبود. وأما إذا اقترن الطبع الإنسانيّ مع الهوى والحسد ، حملاه على المنازعة والتباغض وهتك الحرمات ، وقتل النفس المحترمة ، فإنّ في ذلك الفساد وإبطالا للغرض الإلهيّ الذي من أجله خلق الله تعالى الإنسان ، لأنّه يستدعي سلب الأمان وبعث روح الانتقام والفناء والإفناء.
وهذا ما يشير إليه قول ابن آدم المقتول : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، لأنّه علم بأنّ القتل بغير الحقّ منازعة لربّ العالمين وضدّ الغرض الالهي ، فلأجل سدّ جميع أبواب العدوان ، ولئلّا يحمل الإنسان أيّ سبب واه على التعدّي والقتل والظلم ، ممّا ذكره عزوجل في الآيات المباركة السابقة من الحسد ، والكبر ، واتّباع الهوى ، وجحد الحقّ الذي طالما اتّصف اليهود بها ، وكانت الأسباب في صدور الفجائع والقبائح عنهم ، كما قصّ تعالى قصصهم ، ولأجل كلّ ذلك كتب عزوجل عليهم أنّ النفس الواحدة بمنزلة الجميع ، فيكون قتلها بمنزلة قتل الجميع ، وإحياؤها بمنزلة إحياء الجميع ، لتقوّمه بالافراد ، ولأن صلاح الفرد صلاح المجتمع.
وممّا ذكرنا يظهر فساد ما استشكل به في المقام من أنّ التنزيل يفضي إلى