والدعوة إليه وتسليم الوجه له ، والأنبياء مهما اختلفوا في الأحكام الفرعيّة ، إلّا أنّهم اتّفقوا في ذلك ، والآية لا تدلّ على بطلان شرع من قبلنا ، كما زعمه بعض المفسّرين ، فإنها ليست في مقام بيان هذه الجهة ، فقد تتّحد الشرائع في كثير من الأمور ، وإنّما تختلف فيما يرجع إلى استعداد البشر وحال الاجتماع والظروف التي تحيط بكلّ امّة ، وقد تبادلت الشرائع فيما بينها واختلفت في الأخذ والعطاء ، فأخذت شريعة خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله الملّة الحنفيّة التي جاء بها إبراهيم عليهالسلام ، وأقرّت كثيرا من الأحكام التي نزلت في بقية الشرائع الإلهيّة ، فإنّ طريق الهداية واحدة وإن اختلفت المسالك إليها.
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).
بيان للسبب في اختلاف الشرائع ، أي : ولو شاء الله تعالى أن يجعلكم أيها الناس امّة واحدة بأن يخلقكم مع استعداد واحد لا اختلاف في القابليات ، فتتّحد جميع الشرائع والمناهج ، فيكون المراد من الجعل هو الجعل التكوينيّ ، بمعنى خلقهم على مستوى واحد من الاستعداد والتهيؤ والقابلية ، لا أن يكون المراد منه النوعيّة الواحدة ، فإنّ الناس أفراد نوع واحد ، أي : لم يخلقهم كسائر أنواع الخلق يقفون عند استعداد واحد ، بل اختلفت العطايا الإلهيّة والفيوضات الربّانيّة لأفراد هذا النوع ، فجعلهم على تفاوت كبير في القابلية والاستعداد ، فاقتضى ذلك أن تختلف الشرائع والمناهج ، لتتمّ سعادتهم وتكون سلما لارتقائهم درجات الرقي والكمال ، والأمم التي اختلفت الشرائع فيها قد ذكرها عزوجل في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ...) [سورة الشورى ، الآية : ١٣].
قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ).
تعليل لما سبق وبيان لأحد وجوه الحكمة في تردّد الشرائع ، أي : لما كانت العطايا الإلهيّة لأفراد نوع الإنسان مختلفة ومتفاوتة لجهات كثيرة وحكم متعدّدة ، فكان لا بدّ من تعدّد الشرائع طبقا لمراتب الاستعداد والقابليات ، والعلّة في ذلك هي أنّ إرادته تعالى تعلّقت بأن يكون ذلك امتحانا لكم فيما أنعم عليكم من