تعدّ هي بنفسها عبادة عظيمة يتقرّب بها إلى الله سبحانه وتعالى ، ويحفظ فيها عهدا من العهود الربوبيّة ، فهي حسن على كلّ حال ، كما ورد في الحديث ، ولأهمّيّتها فقد ذكر عزوجل حكم بعض هذه الطهارات في سورة النساء أيضا ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) [سورة النساء ، الآية : ٤٣] ، إلّا أنّ آية المقام أوضح أسلوبا وأبين حكما ، حيث ذكر مواضع الطهارة وطريقتها وموجباتها والغاية منها وشروطها.
ثمّ بيّن سبحانه وتعالى أنّ الغرض من تلك الأحكام والتكاليف هو تطهير النفوس ـ من درن الرذائل والآثام ـ والأبدان من أنواع الخبائث والأدناس. ولم يرد سبحانه وتعالى منها إيقاع المكلفين في الحرج والمشقّة ، فإنّه تعالى أعظم وأكبر من ذلك ، فقد شرّع من الأحكام في الحالات الاضطراريّة ما يهوّن عليهم ويخفّف عنهم.
وأخيرا صرّح عزوجل أنّ تلك التكاليف والتشريعات هي من المواثيق التي أخذ عزوجل العهد عليها من المؤمنين بالسمع والطاعة ، فيجب عليهم الوفاء بها وتنفيذها ومراقبته تعالى بالتقوى والشكر على تلك النّعم الإلهيّة.
وبذلك لم تخرج هاتين الآيتين الشريفتين عن الهدف الذي نزلت هذه السورة الكريمة لأجله ، وهو إعداد المؤمن إعدادا عقائديّا وعمليّا ، وتربيته بالتربية الإلهيّة ، وإرشاده إلى الكمال الواقعي والسعادة الحقيقيّة.
ويرشد إلى ذلك الابتداء بخطاب المؤمنين بالنداء الربوبي الذي يتضمّن معاني دقيقة ، وإشارات عرفانيّة ، وحقائق منطوية لم تكن في أي خطاب آخر ، مذكّرا لهم بما افتتحت به هذه السورة بالوفاء بالعهود التي أخذها الله تعالى عليهم.