ومنها : النهي عن اتّباع الهوى بالانحراف عن القسط في الشهادة ، إما ميلا إلى أحد الأطراف ، أو حيفا وظلما عليه لسابق عداوة وبغضاء بينهما.
ومنها : اتّحادهما في بيان أهميّة العدل وعظيم أثره في جميع العوالم وكلّ الشؤون في عالم الشهادة ، فإنّ به تنظم حياة الإنسان الدنيويّة والاخرويّة ، ويصل كلّ فرد إلى جزاء عمله. وعليه تتوقّف استقامة الأمور ، وهو القاعدة الرصينة المحكمة التي تعتمد عليها جميع الفضائل وبه تتهذّب النفوس وتزول الرذائل ، وقد عدّه بعض أعاظم فلاسفة اليونان أساس كلّ فضيلة ، وميزان كلّ عمل وعقيدة ، وبه يميز الصالح من الأعمال عن الطالح ، فإذا انضم إليه القيام لله تعالى ، كان العمل زاكيا خالصا من كلّ ما يوجب الشين والفساد ، وصار الفرد مخلصا ودخل في زمرة عباد الله المخلصين الذين استثناهم الشيطان من غوايته ، قال تعالى حاكيا عنه : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٠].
ولكنهما تختلفان في الغرض الذي سيقت له الآيتان الشريفتان ، فإنّ الغرض من آية النساء هو الردع عن الانحراف في الشهادة اتباعا للهوى بالتحيّز لأحد الأطراف ، سواء كان قريبا أم بعيدا ، ابتغاء للنفع ، ولذلك أمر عزوجل بالشهادة لله ابتغاء لرضائه ، فنهى عن اتّباع الهوى ، فقال تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا). وأما آية المائدة فإنّ الغرض منها هو الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة استجابة للنزعة العصبية ، بالحيف على من له سابق عداوة معه ، فيقيم الشهادة على غير القسط والعدل انتقاما من المشهود عليه ، ولذلك أمر عزوجل بالشهادة بالقسط ، التي هي من مظاهر القيام لله تعالى ، ولذلك فرّعها عليه.
ويمكن أن يقال أيضا : إنّ آية النساء بمضمونها الرفيع ، كالمقتضي لآية المقام ، حيث أمر جلّ شأنه بالقيام بالقسط والشهادة لله عزوجل والنهي عن اتّباع الهوى ، فإنّه المانع عن العدل الذي به تساس العباد وتقام أركان الحياة ، ويساق الناس إلى يوم المعاد ، وبه يصل العبد إلى منزلة القيام لله تعالى بتخليص نفسه من الرذائل