والتوفيق للاستكمال والوصول إلى مقام القرب والدخول في النعم الأبديّة ، واللعن إنّما يتعلّق بمن انهمك في العصيان ونقض المواثيق على الدوام ، وأفسد فطرته بارتكاب الآثام وهتك حرامات الله تعالى ، وقسى قلبه بالتعدّي على حدود الرحمن ، فلم تنفعه آيات الله تعالى ومواعظه ، ولذلك اتّخذها هزوا ولعبا.
قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً).
أي : صلبة غليظة لا تنفعل عن الآيات والنذر ، ولا تخضع للحقّ ، كما لا تخشع لآيات السماء ، ولا تتأثّر برحمته عزوجل ، قال تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [سورة الحديد ، الآية : ١٦] ، وهي مأخوذة من قسوة الحجارة ، أي : صلابتها ، بحيث لا يؤثّر فيها الماء ولا ينبت عليها الزرع والنبات.
وإنّما جعل قلوبهم كذلك ، لأنّهم انهمكوا في الطغيان بسبب نقضهم الميثاق وما يترتب عليه من الكفر والمعاصي وارتكاب الآثام ، فأثّرت تلك في نفوسهم فأبعدتهم عن الرحمة الإلهيّة وفضله العظيم ، وأقست قلوبهم حتّى لا تؤثّر فيها حجّة ولا موعظة ، ولا تكاد تركن إلى الحقّ ، وهذا معنى جعله عزوجل قلوبهم قاسية ، فإنّه حصل بفعلهم ، ومن سنّته عزوجل تأثير الأعمال والسجايا والأخلاق في القلوب والنفوس ، إلّا من أدركته الرحمة الإلهية ، ولعلّه لذلك قدّم سبحانه وتعالى اللعن على القسوة ، فإنّ الأوّل هو المقتضي للثاني.
قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ).
بيان لبعض آثار قسوة القلب ، فإنّها توجب انتهاك حرمات الله تعالى وعدم تعظيم شعائره ، فلا مرتبة أعظم من الاجتراء على كلام الله تعالى بتحريفها بما لا يرضاه عزوجل والافتراء عليه ، وقد عرفوا بالتحريف ، ولعلّه لذلك أتت الجملة على صيغة المضارع لاستحضار تلك الصورة ولبيان استمرارهم عليه.