ومن ذلك يعرف أنّه لا وجه للقول بنسخها ، أو أنّ المراد بها الذين تابوا أو دخلوا في الإسلام ، فإنّه لا دليل عليهما ، مع أنّ التوبة والإسلام يجبّان ما قبلهما ، فلا مؤاخذة حينئذ حتّى يأمره بالعفو والصفح ، هذا مع أنّ عموم الآية المباركة وإطلاقها يدلّان على ما ذكرناه.
قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ).
بيان حال النصارى بعد بيان نبذة من أحوال اليهود وقبائحهم ملزيد العبرة ، والنصارى اسم لاتباع عيسى بن مريم عليهما السلّام ، ولعلّ ذكره عزوجل له في المقام لمزيد التشنيع والتوبيخ ، فإنّ من يدّعي نصرة الله تعالى ويتسمّى بهذا الاسم ، لا بدّ وأن يعمل بموجبه ويلتزم بما يتعهّد ولا ينقض المواثيق ، فهم في الواقع ليسوا بنصارى وإن قالوا إنا نصارى.
وإنّما أخذ عزوجل منهم الميثاق لنصرة دين الله تعالى بشريعته ، والإيمان بالرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليهالسلام.
قوله تعالى : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).
أي : أنّهم بسبب انهماكهم في نقض الميثاق والإقبال على الدنيا وملاذها ، نسوا النصيب الوافر من العلم والمعرفة التي ترشدهم إلى سعادتهم ، ممّا ذكرهم به عيسى بن مريم عليهالسلام الذي كان نبي الرحمة والعطف ، والتآلف ، والصلح ، والوئام ، فقد بدّلوا كلّ ذلك إلى أضدادها ، كما حكي عزوجل عنهم ، وساروا في السبل التي تبعّدهم عن الأخلاق السامية ، والفضائل الرفيعة ، والأوصاف النبيلة وغيرها ممّا كانت هدف الأنبياء عليهمالسلام وبنيّة المجتمع الراقي ومحور الإنسانيّة ، ولذلك فشت الصفات الرذيلة بينهم كما ذكره جلّ شأنه.
قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).
مادة (غرى) تدلّ على اللصوق ، ومنه الغراء ، وهو ما يلصق به ويتّخذ من أطراف الجلود والسمك ، وهو بالمدّ أو القصر ، وأغريت فلانا بكذا إذا ألهجته فلصق