هبيرة : لست أقتلها إلا تغريقا. قال : فأخذ رحى البزار ، فشدّها في رجلها ، وقذفها في الفرات ، فقامت فوق الماء مع الحجر ، فجعلت تنحدر مع الماء ، فخافوا أن تفوتهم ، فقال ابن هبيرة : من يمسكها ، وله كذا وكذا؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله. فقال : أعطوني قدح زجاج فيه ماء ، فجاؤوه به ، فعقد على القدح ، ومضى إلى الحجر ، فشق الحجر بالقدح ، فتقطّع الحجر قطعة قطعة ، فغرقت الساحرة فيصدقونه.
ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة ، ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهمالسلام من هذا النوع : وأنهم كانوا سحرة. وقال الله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٩] وقد أجازوا من سحر الساحر ما هو أعظم من هذا وأفظع. وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام سحر ، وأن السّحر عمل فيه حتى قال : «إنه يخيل إلي أني أقول الشيء وأفعله ، ولم أقله ولم أفعله» وأن امرأة يهودية سحرته في جفّ (١) طلعة نخل ذكر ومشط ومشاقة (٢) ، حتى أتاه جبريل عليهالسلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة ، وهو تحت راعونة البئر (٣) ، فاستخرج ، وزال عن النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك العارض (٤). وقد قال الله تعالى مكذّبا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال جل من قائل : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨].
ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعّبا بالحشوية الطغام. واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهمالسلام ، والقدح فيها. وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة ، وأن جميعه من نوع واحد.
والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهمالسلام وإثبات معجزاتهم ، وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٩] فصدّق هؤلاء من كذّبه الله ، وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله.
وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها ظنا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد قصدت به النبيّ صلىاللهعليهوسلم. فأطلع الله نبيّه على موضع سحرها ، وأظهر جهلها. فيما ارتكبت وظنت. ليكون ذلك من دلائل نبوته ، لا أنّ ذلك ضرّه وخلّط عليه أمره. ولم يقل كل الرواة : إنه اختلط عليه أمره ، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له.
والفرق بين معجزات الأنبياء عليهمالسلام وبين ما ذكرنا من وجوه التخييلات ،
__________________
(١) الجفّ : الغشاء الذي يكون على الطلع ، انظر لسان العرب لابن منظور (٩ / ٢٨).
(٢) المشاقة : هي المشاطة ، انظر لسان العرب لابن منظور (١٠ / ٣٤٥).
(٣) راعونة هو حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقي.
(٤) رواه البخاري في الصحيح (٧ / ٣٨) ، ٧٦ ـ كتاب الطب ، ٤٩ ـ باب هل يستخرج السحر حديث رقم (٥٧٦٥) ومسلم في الصحيح (٤ / ١٧١٩) ، ٣٩ ـ كتاب السلام ، ١٧ ـ باب السحر حديث رقم (٤٣ / ٢١٨٩).