قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦))
روي في أسباب نزول الآية أخبار كثيرة ، كلها متفقة على أنها نزلت في شأن رجل يقال له طعمة بن أبيرق ، على خلاف فيما وقع منه ، قال الفخر الرازي : إنّ طعمة سرق درعا ، فلما طلبت الدرع منه رمى واحدا من اليهود بسرقتها ، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قوم طعمة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وطلبوا منه أن يعينهم على مقصودهم ، وأن يلحق الخيانة باليهودي ، فهمّ الرسول صلىاللهعليهوسلم بذلك فنزلت الآية (١).
وقيل : إنّ واحدا وضع عند طعمة درعا على سبيل الوديعة ، ولم يكن هناك شاهد ، فلما طلبها منه جحدها ، وقيل : إنّ المودع لما طلب الوديعة زعم طعمة أن اليهودي سرق الدرع.
وقد قال العلماء : إنّ ذلك يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين ، وإلا لما طلبوا من الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يلحق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان ، انظر إلى قوله تعالى في الآيات التي بعد هذه (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).
وقد روي أن طعمة هرب بعد الحادثة إلى مكة وارتد ، وسقط عليه حائط كان يثقبه للسرقة فمات.
(لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) أي بما أعلمك الله في كتابه ، وأنزله إليك بوحيه ، ويصح أن يكون المراد بما جعله الله رأيا لك ، إما من طريق الوحي ، أو الاجتهاد ، وليس يلزم من تأويل الآية على العلم بطلان القياس ، لأنّك قد عرفت أنّ القياس راجع إلى الكتاب والسنة ، والعلم به عمل بأمر الله ، وقد اختلف العلماء في أن النبي صلىاللهعليهوسلم له أن يجتهد ، أو ليس له ذلك ، والمسألة لها موضع غير هذا في الأصول يجمع أدلة الطرفين.
غير أن الذي يلزم التنبيه إليه أن الذي يقول : إنه يجوز له الاجتهاد يقول : إنه يجوز عليه الخطأ ، لكنّه لا يقرّ على الخطأ ، ويستشهد بمثل الحادثة التي نحن بصددها ، فإنه قد بيّن له الحكم ، وبمثل ما حدث في أسارى بدر.
(وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) الخائنون هو طعمة وقومه ومن يعنيه أمره منهم ، واللام للتعليل ، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه ، وقيل : إنّ اللام بمعنى عن أي لا تكن مخاصما ومدافعا عنهم ضد البراءة (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما
__________________
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٢٢٨) ، كتاب التفسير حديث رقم (٣٠٣٦) ، وابن جرير (٥ / ١٧٠).