أمر يدور مع الدليل الخارجي ، ففي مثل قولنا حفظت القرآن من أوله إلى آخره ، وقوله تعالى : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء : ١] ما بعد (إلى) داخل في حكم ما قبلها ، لأنّ الغرض في المثال الأول للدلالة على حفظ كل القرآن ، وللعلم العادي في المثال الثاني بأنه عليه الصلاة والسلام لا يسرى به وهو زعيم ديني من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ـ وهو من أعظم بيوت العبادة ـ من غير أن يدخله ويتعبد فيه.
وفي مثل قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] وقوله : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] ما بعد (إلى) غير داخل في حكم ما قبلها ، لأنّ الإعسار في المثال الأول علة في الإنظار ، وبالميسرة تزول العلة ، فيطالب بالدين ، ولا يثبت الإنظار معها ، ولأنه في المثال الثاني لو دخل الليل في حكم الصيام للزم الوصال ، وهو غير مشروع في حقنا ، وقوله : (إِلَى الْمَرافِقِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فقال الجمهور : بوجوب غسل المرفقين والكعبين احتياطا في العبادات ، خصوصا إذا لوحظ أن الأيدي والأرجل تتناول في الاستعمال المرفقين والكعبين وما وراءهما ، فيكون ذكرهما لإسقاط ما وراءهما لا غير ، فيجب غسل المرفقين والكعبين لذلك ، وهو مذهب الحنفية والشافعية. وقال زفر من الحنفية : لا يجب غسلهما لأنّ (إلى) لانتهاء الغاية ، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه.
(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) اتفق الفقهاء على أنّ مسح الرأس من فرائض الوضوء ، ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح ، فقال المالكية : يجب مسح الكل أخذا بالاحتياط.
وقال الشافعية : يكفي مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين.
وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس أخذا ببيان النبي صلىاللهعليهوسلم كما روي عن المغيرة بن شعبة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان في سفر ، فنزل لحاجته ، ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته (١).
ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء في قوله : (بِرُؤُسِكُمْ) زائدة أو أصلية فقال المالكية والحنابلة ، إن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول ، واعتبارها هنا زائدة أولى ، لأنّ التركيب حينئذ يدل على وجوب مسح كل الرأس ، والبعض داخل فيه ، فيكون ماسح الكل آتيا بالفرص بيقين ، فيجب مسح الكل احتياطا.
وقال الحنفية والشافعية : إنّ هذه الأدوات التي منها الباء موضوعة للدلالة على معان ، فمتى أمكن استعمالها دالة على هذه المعاني وجب استعمالها على هذا النحو.
والباء موضوعة للتبعيض ، ويمكن استعمالها هنا فيه ، فإننا نجد فرقا في المعنى
__________________
(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٢٣٠) ، ٢ ـ كتاب الطهارة ، ٢٣ ـ باب المسح على الناصية حديث رقم (٨٣ / ٢٧٣).